صمت العواطف . . وثرثرة الخلافات
عادل بن سعد الخوفي
الحوار الناجح بين أفراد الأسرة يُعَد ركيزة أساس لاستقرارها ، وبناء شخصية أفرادها بصورة متَّزنة ، وسد منافذ الانحراف لديهم ، بل وتهيئة المناخ الأمثل لتنمية مهاراتهم ، والتعبير عن ذواتهم وقدراتهم .
وأسرة بلا حوار ناجح ، سفينة في مهب الريح ، تعصف بها الرياح العاتية ، والأمواج المتلاطمة ، فلا يقر لها قرار ، ولا تهدف إلى طريق ، بل سيكون أفرادها مسخاً ، ليس لأحدهم شخصية قائمة ، ولا سياج يحتويهم ، فإما أن يكون ( الخرس الأسري ) علامتهم الفارقة ،وإما أن تَفْتَحُ لهم ( البيئة الطاردة ) أبوابها ، فلا تدري من يحتويهم ، ولا إلى أي دَرَكٍ يتَّجهون .
بين يدينا هنا ( 5 ) نماذج لمشكلات أسرية ، ليست نسج خيال ، بل واقع قد كُتِبَ بأيدي أصحابه ، وليست من عالم آخر ، بل لشخصيات يعيشون بيننا.
الأولى تقول : مشكلتي دخولُ شَريكٌ في حياتي ، وهو الانترنت ، زوجي يمضي معه ساعات طوال ، دون أن يعيرني أي اهتمام رغم حاجتي له ، أثق أنه يحبني ، لكنه لا يعبر عن ذلك إلا بالقليل القليل . . أشعر بالوحدة والملل ، لدرجة أنني بدأت أتكاسل عن أعمالي المنزلية ، لشعوري بأني خادمة وحسب ، روتين ممل ، لا جديد في حياتي ، وحين جنَّ جنوني وصارحته ، قال : أنت مريضة نفسياً ، أنقذوني أرجوكم .
والثانية تقول : أنا شاب متدين ، والحمد لله ،إلا أن أبي وأمي قد جعلا من حياتي جحيما، هما يصليان ويزكيان ويصومان، ويعلمان أنه لا يجوز للمسلم أن يخاصم أخاه فوق ثلاثة أيام، إلا أنهما لا يتكلمان أو يجتمعان، بسبب مادي ، رغم أن كليهما ميسور الحال و الحمد لله !!
والثالثة تقول : أعاني من مشاكلي المتكررة مع زوجتي، وعدم قدرتها على التفاهم معي ، فهي معارضة لمعظم قراراتي ، لي منها ولدان، وأفكر في عدم الإنجاب من هذه المرأة مرة أخرى؛ خوفاً على الأطفال من المشاكل المتكررة، وأيضا قد يحدث الطلاق في أي لحظة ويتشتت الأطفال.
والرابعة تقول : مشكلتي في زوجي وابني المراهق ، الأب له أسلوب جاف في التعامل مع الابن ، وولدي مراهق ، 16 سنة ، أحسنت تربيته منذ الصغر ، كنت أحثه على الصلاة ، وعدم الكذب ، والأمانة ، لكن انقلب فجأة ، أصبح مهملاً في صلاته ، يكذب ويراوغ ، ويهمل دروسه ، أبوه لا يحتمله ، يدعو عليه ليل نهار ، ويرفض الحديث معه ، والولد يتحاشى رؤيتنا ، يهرب من المنزل ، ويأتي آخر الليل للنوم .
وأما الخامسة فتقول : في هذا اليوم بالذات ، أحسست بأنني محتاجة إلى أحد كي أتكلم معه وأرتاح ، أنا فتاه عمري 16 سنه ، فتاه كبقية الفتيات ، أملك فراغ عاطفي في داخلي ، وكلما رأيت من يبادلني هذا الشعور ، حتى ولو أنني أول مره أراه ، أحس بأنني أحببته ، لا أدري ، لدرجة أنني أحببت ( بنجلاديشي ) ، أرجوكم ، أنا محتاجة إليكم كثيرا ، ربما كلامي المختصر لا يعبر عن المأساة التي أعيشها مع نفسي ، وأتمنى مساعدتي .
بيوتاتنا إما أن تكون بيئات ( جاذبة ) ، يأوي إليها أفرادها لينعموا بدفئها ، ويستروحوا عبيرها ، ويرتووا برِيِّها ، وإما أن تكون بيئات ( طاردة ) ، ما إن تطؤها أقدامهم ، حتى يحسوا بحرارة أرضها ، وهجير حَرِّها ، وضيق أجوائها ، فيتم البحث عن كُوَّة ضوء في جدار الظلام ، أو نسمة هواء في جحيم لا يطاق ، العامل المشترك في أمثلتنا الخمسة ، هو ( عدم الحوار ) .
ففي أنموذجنا الأول :
( خرس زوجي ) ، شعور بالحب قائم ، إلا أن التعبير عنه كسيح ، هناك مطالب واحتياجات تتردَّد في نفس الزوجة ، لكن ليس هناك تيار للتنفيس عنها ، ليس من حوار ناجح بين الزوجين ، بل هناك ( المفردات المُحَقِّرة : أنت مريضة نفسياً ) ، قوالب جاهزة لإغلاق الأبواب ، ولتبقى الزوجة في حسرتها كسيفة ، مهضومة ، ( أشعر بالوحدة والملل ، شعوري بأني خادمة وحسب ، روتين ممل ، لا جديد في حياتي ، جنَّ جنوني ، أنقذوني ) .
وفي أنموذجنا الثاني :
( الخصام ) بين الأبوين ، وعدم علاجه بحوار هادئ ، أصاب الابن المتدين في مقتل ، فأحال حياته جحيماً ، المشكلة هنا ( الحبل ليس ممدوداً ) و ( الحلول معدَّة مسبقاً ) ، ولذا كان الحوار ( النقاشات السابقة ) محكوما عليها بالفشل .
وأما الأنموذج الثالث :
فالزوج يستصرخ ألا نقطة التقاء بينه وبين زوجته ، وأنها في المنزل أصبحت ( اللواء المعارض ) ، فاللغة المشتركة منقطعة ، والنهاية تلوح بالأفق ( الطلاق ) ، والسبب : ( لا حوار ) ، ( لا قواسم مشتركة ) تجمع الاثنين ، لا وضوح لنمط شخصية شريك الحياة لدى أحدهما .
والأنموذج الرابع :
انتفاضة في سلوك فتى الـ ( 16 ) ربيعاً ، انقلاب في طبيعة استجابته وتصرفاته ، لمروره في أجواء ( المراهقة ) العاصفة ، ضيق أفق ، وضيق نفس لدى الأب ، جعلته لا يحتمل وليده المراهق ، دعوات مهلكات ليل نهار ، إحساس لدى الشاب بعدم جدوى الحديث بينه وبين والده ، أغلقت الأبواب الأسرية ، فَفُتِحَت الأبواب الشيطانية : ( إهمال الصلاة ، الكذب ، السرقة ، العقوق ) ، والعلاج : أن نقبل فتانا كما هو ، ( نحاوره ) ، نستوعبه تحت مظلتنا ، نُشعره بدفء جناحنا ، نلتقي وإياه حيث تَتَّفق رؤانا ، ثم نرتقي به بشفقة الأب الحاني حيث الظلال الوارفة .
و آخر نماذجنا :
فتاة أيضاً في أوج عنفوان مرحلة المراهقة لديها ، عاطفة مشتعلة مكتومة في داخلها ، تتأجج لترى النور ، ويا للأسف !! ليس من حولها ( أبوان ، أو إخوة وأخوات ) من يُنَفِّس لها ، لتروى حاجتها ، فكان الشارع هدفاً مشروعاً حسب رؤيتها القاصرة ، بل أي شيء ، أي شيء يمكن أن يكون حبيباً ، مادام سيروي الأيام العجاف .
هناك ارتباط وثيق بين ( الجفاف العاطفي ) وبين ( انقطاع الحوار ) ، فالأول نتيجة حتمية للثاني ، وأغلب المشاكل الأسرية جاءت لشعور أحد أفرادها بحاجته لعاطفة دفَّاقة ، أو لعدم وجود من يحتوي هذه العاطفة ، فالإنسان منذ نعومة أظفاره ؛ يحتاج إلى من يستقبل أحاسيسه ومشاعره ، إلى من يحتضنه ويُخَفِّف عنه ،إلى من يبثه آماله ونجواه ، إلى من يغذِّي عقله وقلبه ، إلى من يتحاور معه بأمن واطمئنان ، إلى من يعيش معه الحب ، وليس أي حب !! بل الحب الذي لا يشعر معه بتأنيب الضمير ، أو حرارة المعصية ، ولا سبيل لذلك إلا من خلال أسرته الحانية .
نَقِفُ هنيهةً مع أنموذج مُتَخَيَّل لأسلوب الحوارات الأسرية غالبا ، للخروج من هذا النموذج بالفوائد المناسبة :
سالم رب أسرة ، مكونة من زوجته ( حنان 40 عاماً ) ، وابنته ( وئام 20 عاماً ) ، وابنه ( حسام 16 عاماً ) ، وابنته ( سهام 12 سنة ) ، و( إمام 8 سنوات ) و ( عصام 4 سنوات ) .
اعتاد ( سالم ) حين الدخول إلى منزله ، أن يرفع صوته ، ليُشعر من بالداخل بوصوله ، ثم يَتَّجه إلى مقعده المعتاد ، إلا أن ذاك لا يحرك في أرجائه شيئاً ، فالكل مشغول بما في يديه .
يأتي ( إمام ) ليُسرَّ في أذن والده ، أن ( عصام ) قد كسر ( التُّحفة ) التي اشتراها والده بالأمس ، فيشتاط الأب غضباً ، وينادي : عصام عصام .
= عصام ( مذعوراً خائفاً ) : نعم يا بابا
= سالم ( بصوت متوعد ) : من كسر التُّحفة !؟
= عصام : لا أدري ، ( إمام ) يا بابا
= سالم ( يمد يديه إلى أذن عصام ) : وتكذب أيضاً !
= تأتي ( حنان ) متسائلة : ما بك يا أبا حسام !؟.
= سالم ( موجهاً نظراته إلى زوجته بضيق ) : لستُ أدري ما دورك في المنزل ! قلتُ لكِ ألف مرَّة احفظي أولادك عن العبث بأثاث المنزل ومحتوياته ، ولكنكِ لا تفهمين .
= وئام ( بعد أن استمعت لحديث والدها الأخير ، وتريد تغيير دفَّة الحديث ) : مساء الخير أبي .
= سالم : أي خير ، من أين يأتي الخير ، وهذه العقول الغبيَّة حولي ، قلتُ لكم ألف مرَّة ، هذه أدوات نشتريها بمئات الريالات ، وأنتم تعبثون بها ، كعبثكم بألعابكم .
= وئام : والله أننا نبذل جهدنا ، ووالدتنا ما تقصِّر .
= حسام ( بعد أن التحق بهم ، مخفِّفاً ) : يا أبت نحن حريصون عليها ، ولكن قدر الله ، وما شاء فعل ، والدتي تبذل جهدها ، ونحن كذلك ، إلا أنَّك تعرف ( عصام ) ، ورغبته التعرف على كل شيء ، ولم نكن حوله حينئذ .
= سالم ( بعد إشارته لحسام بالسكوت ، مقاطعاً ) : ما أجمل أن تكون ساكتاً ، هل ستعطيني دروسا في القضاء والقدر ، ثم يا ليتك أنت وأختك إذا رأيتم الكبار يتحدَّثون ،تغلقون أفواهكم .