"فزتُ وربُّ الكعبة"...
صيحة أطلقها الصحابي حَرَام بن مِلْحان، يوم أصابه سهمٌ في ظهره، حتى خرج سنانُه من صدره!!
بهذه المعاني تحيا الأمة ويرخص في ضميرها حب الدنيا وكراهية الموت، وهو الوَهْن الذي نبَّأنا به رسولنا - صلى الله عليه وسلم.
وهذه المقاومة أيضًا عزَّزَت في الأمة روح الكرامة، وقيم العزَّة، وهي مؤشِّرٌ على حياة الشعوب؛ فلا يرضى الذُّلَّ والاستذلال إلا مَنْ سفه نفسه، وفقد إنسانيته.
وإذا كنَّا جميعا نتفق أن تحرير الأقصى وإعادته للجسد الإسلامي من الأولويات المناطة بالأمة؛ فلابد ألاَّ نختلف على أن وجود فئة مرابطة مجاهدة في أرض الإسراء هي أول خطوة لتحقيق هذا الهدف.
نعم؛ لن نمنِّي الأمة بزوال إسرائيل على يد هذه المقاومة - مع اعتقادنا أن ذلك على الله ليس بعزيزٍ وبعيد - ولكن لابد أن نستيقن أنَّ هذه المقاومة قدَّمتنا لهدفنا ذاكَ عشر خطوات، يوم أن أخَّرنا غيرهم ألف خطوة.
عباد الله:
الآلام والجراح قَدَر الله في هذه الأمة، ومشيئة الله نافذةٌ في أمَّتنا المكلومة المرحومة: أن يصيبها البلاء؛ ليكفِّر الله عن أهلها السيئات، ويتَّخذ منها شهداء، وليميز الله الذين آمنوا من الذين نافقوا:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166، 167].
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 140، 141].
لقد مَسَّ رسولَ الله وصحابتَه البأساءُ والضراءُ في مكة، حتى شكوا لرسول الله : أَلاَ تَدْعُ اللهَ لنا، ألا تَسْتَنْصِرْ لنا؟!
لقد مَسَّ رسولَ الله وصحابتَه اللأواء يوم أحد، فكُسرت رباعيَّته، وشُجَّ وجهه، وغارت حلقة المِغْفَر في وجهه، حتى أعياه القيام - صلى الله عليه وسلم -وقتل في مشهد أُحُدٍ سبعونَ من خيار وأبطال المهاجرين والأنصار.
أَمَا فُجِعَ رسول الله بقتل سبعين من قرَّاء القرآن ومَهَرَتِه في بئر معونة؟
أما مَسَّ هذه الأمَّة البأساءَ يوم الغزو الصليبي البربري في القرن الخامس الهجري، وقُتل في القدس سبعون ألفًا في يومٍ واحدٍ فقط، وحُوِّل المسجد الأقصى إلى كنيسة، رُفع الصليب عليها دهرًا من الزمن؟
أما فُجِعَت أمَّتنا بمليون شهيد في بغداد فقط، إبَّان الغزو التَّتَري الهمجي عليها؟
أما قدَّمت هذه الأمة مليون شهيد من أجل تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي، حتى لُقِّبَت الجزائر بـ(بلد المليون شهيد)؟
هذه هي ضريبة المدافعة واسترجاع الحقوق: طريقٌ شائكٌ ومريرٌ، لكن ثَمَنُهُ العزَّة، نصرٌ أو شَهادةٌ، ومَنْ يريد مقاومةً بلا مصائب ومواجع؛ فهو كمَنْ يجمع بين نقيضين.
عباد الله:
ومن منح هذه الأزمة ومكاسبها: أنها كشفت للعالم زيف الشعارات البراقة التي تنادي بها دول النصرانية الطاغية الباغية، رأينا هذه الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير المصير، رأيناها رأي العين في فلسطين، رأينا رحمة الغرب المتحضّر بالإنسان، حينما يبرِّر لعصابات يهود أن تحرق وتدمِّر تحت ذريعة الدفاع عن النفس!
رأينا عين اليقين: مَنْ هو الإنسان الذي تُحفظ كرامته، ومَنْ هو الإنسان الذي لا يُعبأ به، في أي أرضٍ هلك!!
أين هي تلك القوانين التي عرفت حقَّ الحيوان، ولم تتحرَّك حتى الآن لدماء المسلمين؟!
سَلو التاريخَ: هل عرفت البشرية واقعةً أشد جرمًا ومواتًا للقيم الإنسانية من خنق شعب ومحاصرته؛ ليموت جوعًا وألمًا وقتلاً، والنِّعم والخيرات تحيط بالبلدان من حوله؟!!
والعجب أن يحدث هذا كله في عالم التغني بالقيم والحقوق الإنسانية!!
عباد الله
ومن منح هذه الأزمة: أنها أخَّرت خطوات التطبيع عن الشعوب كثيرًا، فهتافات الملايين الآن من جاكرتا إلى الرباط مع مشروع المقاومة؛ فلا يمكن أن يتعايشوا مع شعب هذه أخلاقه، وهذا طَبْعُه وطبيعته.
لقد فهمت الشعوب الإسلامية رسائلَ اليهود عبر صواريخها، بأنهم أمةٌ لا تعيش إلا على الحروب، فهمنا ذلك جيدًا، فعرفنا أن أمة المكر والمماطلة والخيانة لن تتنازل عن أرض القدس، ولا عن حقِّ عودة اللاجئين، ولا عن جزءٍ من أراضي الضفة الغربية؛ فهي أراضٍ انتزعوها بالدم والدمع كما يردِّدون، وقالوها صراحةً: (لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا قداسةً، ولن نغادرها أبدًا).
إخوة الإيمان :
لا سبيل لعزَّة الأمة إلا بعودتها لدينها، والتفافها على نفسها، وإحياء روح الولاء بينها، كما نعتها ربُّها بقوله : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
وإذا كانت يهود اختارت طريق الدماء والأشلاء، فلها ذلك!!!
ولكن ليعلموا أننا أمة لا ننسى مآسينا
نحن أمة نزداد صلابة كلما ازدادت شراسة أعادينا
نحن أمة يجري الفداء في عروقنا والبطولة سجية فينا
وليعلموا أيضًا: أن أمة محمد تمرض، لكنها لا تموت، وأن الضعف الذي نعيشه ما هو إلا مرحلة استثنائية، وسيأتي منَّا أو من أجيالنا مَنْ يتعامل مع يهود اليوم، كما تعامل نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - مع يهود بني قريضة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
بارك الله لي ولكم في القرآن ....
فيا إخوة الإيمان :
ومن منح هذه الأزمة: أنها جلَّت معادن الناس ومشاعرهم تجاه قضايا أمتهم، فعرفنا من الذي ينصر قضايانا، ممن يرقص على جراحاتنا، ويخذل صفَّنا، ويَشمت بمقاومتنا، ويَغضُّ الطَّرْفَ عن جرائم عدونا، من أقلام الضرار وقنوات التغريب.
فجزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بيريقي
وما حبي لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
فالذي نصر قضيتنا في عالمنا الإسلامي فئات وجهات حق لها أن تذكر فتشكر:
- يأتي في طليعتهم العلماء، وأهل العلم الذين بادروا ولم يتأخروا بإصدار بيانات جماعية، رسمية وغير رسمية، توضح للأمة القضية، وتبرز لهم أبعادها وحلوها، فعلماء الأمة هم رأس حربتها، وهم أهل لقيادتها، مهما شوِّهت صورتهم وبهتوا، ووصفوا بالتأخر والجمود وعدم مواكبة العصر والحدث.
- ونصر قضيتنا أيضًا: هذه الشعوب الغاضبة الحانقة، والتي لم تجد حيلة إلا الخروج في الشوارع لتعبر عن نصرتها وولائها وغيرتها.
- ونصر قضيتنا أيضًا: أصحاب الأيادي البيضاء، وأهل التضرع والدعاء. هؤلاء بحق هم وقود الأمة في أزماتها، وهم الجندي المجهول عند نزول مدلهماتها.
- ونصر قضيتنا أيضًا: ذلك الإعلام النزيه الشجاع، الذي نقل للعالم حقيقة الموقف وحجم المأساة، ممما كان له الأثر الأكبر في تحريك مشاعر وشعور المسلمين تجاه إخوانهم المنكوبين .
- ونصر قضيتنا أيضًا: كل صاحب قلم ولسان أَبانَ حقيقةَ يهود، ودافع عن حق فلسطين بمنظور إسلامي.
فكونوا أنصار الله أيها المؤمنون، واستمروا استمروا في دعائكم وبذلكم وجودكم. يكفي ما بذلنا من أموال وأموال في ملذَّاتنا وكماليَّاتنا، فها نحن نرى اليوم أطفال غزة يتضاوون جوعًا، ويئنُّون مرضًا، ونساؤهم ورجالهم يستغيثون بنا، فماذا قدَّمنا لهم ونحن بنعمة ورخاء، ومزيد خير وسعة؟ فـ((مَنْ لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم))، و((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه))، و((مَنْ فرَّج عن مسلم كربةً من كرب الدنيا؛ فرَّج الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة)).
اللهم صلِّ على محمد .....