عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 9  ]
قديم 2009-01-04, 7:49 PM
ورد النهار
رقم العضوية : 67981
تاريخ التسجيل : 4 - 1 - 2009
عدد المشاركات : 19

غير متواجد
 
افتراضي
ربي يفرج همك وهموم جميع المسلمين
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم

في قولهتعالى‏:‏ ‏«‏وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبواشيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏» ‏البقرة ‏:‏ الآية رقم :‏216‏‏

في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد ، فإن العبد إذا علم أنالمكروه قد يأتي بالمحبوب ، والمحبوب قد يأتي بالمكروه ، لم يأمن أن توافيه المضرةمن جانب المسرة ، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعاقب ، فإنالله يعلم منها ما لا يعلمه العبد « ‏و‏ِ» ‏ أوجب له ذلك أمورا‏:‏

منها‏:‏أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء؛ لأن عواقبه كلها خيراتومسرات ولذات وأفراح ، وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضر عليه منارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه، فإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب، وخاصة العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير،واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل ، فنظر الجاهل لايجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستورمبادئها فيرى ما وراء تلك الستور من الغابات المحمودة والمذمومة‏.‏ فيرى المناهيكطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل ، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السمويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء ، وكلما نهاه كرهه مذاقهعن تناوله أمره نفعه بالتناول‏.‏ ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات منمبادئهاوقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية ، فإذافقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك ، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملهافي طلب الخير الدائم واللذة الدائمة‏.‏

ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي منالعبد التعويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجوفيه من حسن العاقبة‏.‏
ومنها ‏:‏ أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولايسأله ما ليس له به علم ، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم ، فلا يختار على ربهشيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره لهبالقوة عليه والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسهوأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه ، بما يختاره هو لنفسه ‏.‏

ومنها‏:‏ أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ، ويفرغ قلبهمن التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى ، ومع هذا فلا خروجله عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه،وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه؛ لأنه مع اختياره لنفسه ، ومتى صحتفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفهيقيه ما يحذره ، ولطفه يهون عليه ما قدره‏.‏
إذا نفذ القدر في العبد كان منأعظم أسباب نفوذه تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يديالقدر طريحا كالميتة ، فإن السبع لا يرضى بأكل الجيف‏.‏


الفوائد_الإمامشمس الدين أبي عبد الله بن قيم الجوزية