مرَّت السَّنوات، والفتاة طائعة خاضعة.
رزقها الله طفلين.
عندما حدثت المشكلة الأخيرة، وذهبت الفتاة مغضبة عند أهلها.
تتساءلون: ما هي المشكلة الأخيرة؟
طبعًا، طلب منها ابني نقودًا، فرفضت، فضربَها، كعادته، وأخذ نُقودها عنوة.
لا، من فضلك لا تقُلْ لي: هذا حقُّها، وإنَّ لها ذمَّة ماليَّة، وإنَّ هذه أموالها.
ولا تقل لي: كيف يضربها ابنك؟
هي مجرَّد زوجته، وله الحقُّ أن يفعل بها ما يشاء.
ولا تقل: إنَّها من بيت عز وغنى.
لا، لا.
قلت له: يا بنيَّ طلِّقْها؛ فهي لا تستحقُّ مَن هو مثلك.
أطاعنِي ابني، وطلَّقها.
لا تحدِّثْني عن الأولاد من فضلك، هذا لا يهمني.
طبعًا تنازلَتْ عن حقوقِها لتنال الطلاق.
وقُمْنا ببيع الشقَّة التي في الحي النائي؛ لأشتريَ له شقَّة أخرى فاخرة في مكان قريب.
وأشعتُ في المسجد أنَّ ابني يريد زوجةً صالحةً لا كالأخرى الَّتي عذَّبتْه.
وخطبتُ له قبل مرور شهريْن على الطَّلاق.
ومرَّ شهر آخر.
ثُمَّ قامت الأخرى بفسْخ الخطبة.
غبيَّة، مَن هي تلك التي تجرؤ على رفْض ابني؟!
فلتذْهَبْ إلى الجحيم.
سأخطبُ له ابنة خاله.
لكن لم يتألَّف معها.
كان ابني حزينًا، ماذا أفعل كي أذهب عنه الحزن؟
قاتل الله مَن كان سببًا في حزنك يا بني.
كان يرى أولادَه طبعًا بانتظام، حقُّه.
يكفي أنَّنا تركناهُم لها.
طبعًا كانت أمُّ طليقة ابني تُحدِّثُني في الهاتف كلَّ فترة.
تدَّعي أنَّها تُحبُّني في الله، وأنَّها لا شأن لها بتلك المشاكل.
طبعًا تكذب، تُريد أن تعيد المياه لمجاريها، لكن كلاّ، وألف كلا، لن يعود ابني لتلك الفتاة أبدًا.
مرَّ شهر آخر.
ثُمَّ اكتشفتُ أمرًا قلَبَ حياتي رأسًا على عقِب.
كانت أمُّ طليقة ابني تتحدَّث إليَّ في فرح وسرور، وتشكرني بشدَّة أن عاد ابني لبِنْتها، وأنَّه وعدها بحسن العشرة، و .. و ....
ردَدْتُ عليْها بكل صلَف: ومن قال هذا؟! إنَّ ابني لن يعود لابنَتِك.
وأغلقت الهاتف في وجهها.
دعوتُ ابنتي وحكيْتُ لَها ما حدث، صُدِمَتْ.
أمرتُها ألا تتحدث مع الفتاة أبدًا، قالت لي ابنتي - تربية يدي -: رأيتُها مرَّة في مسجدٍ، وسلَّمَتْ عليَّ فأدرْتُ وجْهي يا أمي، ولماذا أسلِّم على مثلِها؟!
شعرت براحة ما من جوابِها، وجلسْتُ أنتظِر ابني على جَمرٍ متَّقد.
* * * * *
جاء ابني متأخِّرًا كعادته.
استقبلتُه بعبوس، جذبتُه من يده، أجلستُه علي كرسي ودرت حولَه كنمر يتربَّص بفريسته.
قلت له: أيا بني، أحقًّا ما سمعت؟
اضطرب اضطرابة لا تَخفى على أم محنَّكة مثلي، ثم قال: وما هو ما سمعتِ يا أماه؟
قلتُ في شراسة، وأنا أواجِهُه بجسدي كله: عوْدتك لزوجتِك؟
انتفض بقوَّة وقال في ذهول: ومَن أخبرك؟
أسْمعتُه ما يليق بِمثله هو وزوجته وطردتُه من بيتي.
ثُمَّ تقصَّيت الخبر مع ابنتي، وقاطعت كلَّ مَن علِمْت أنَّ له يدًا في عودتِهما بعضهما إلى بعض.
عدَّة داعيات ودعاة بالمساجد سعَوْا بينهما بالخير، أقصد بالشَّرِّ؛ ليعودا لبعضِهما رحمة بالأولاد.
ظلَّ ابني يُحاول محادثتي شهرًا كاملاً حتَّى لِنْت في النِّهاية.
فهو ابني الوحيد.
لكن منَعْتُ زوجته الحقيرة من دخول بيتي.
مرَّ عام كامل وبضعة أشهُر على هذا الحال.
تتساءل أين زوجي؟ في السفر.
تزامَن وقت عودة زوجي مع سقوط زوْجة ابني مريضة.
فذهب يعودها، لم يكن يعرف شيئًا عمَّا حدث.
طبعًا تشاجرتُ معه، لكنَّه أخرسني بِحزمِه المعتاد، سكتُّ على مضض.
بعدما تعافتْ زوجة ابني، ظنَّت أنَّ ذهاب زوجي لها يعني عودة الأمور لما كانتْ عليه.
ففوجئْتُ بِها تزورُنِي مع ابني ومعهُما حفيداي.
عبستُ بشدَّة.
ثُمَّ انفجرتُ فيها، وقلتُ لَها: ما الذي جاء بكِ إلى بيتي؟ مثلُك لا يدخل بيتي.
أَهنْتُها أمام ابني وحفيديَّ، ثُمَّ فوجئت بزوْجي يدخل البيت، سكتُّ على مضض، ثُمَّ أغلقت باب غرفة الضيوف عليْهم، ودخلت غرْفتي متعلِّلة بإرهاقي.
ناداني زوْجي بعد حوالي نصف ساعة، كان ابني وزوجتُه يستعدَّان للذَّهاب، وكان يريدني أن أسلِّم عليْها.
سلَّمتْ عليَّ وقبَّلت يدي، ولم تبتسم، فقط نظرة عتاب طويلة، ثُمَّ ذمَّت شفتيها في كبرياء ولوم.. وانصرفت، ولم أرَ وجْهَها منذ ذلك الحين.
كان ابني يأتيني ومعه حفيداي وفي عينيه نظرة حزْن، لا يبتسم إلى أن ينصرف، إلى أن أصرَّ زوجي على معرفة ما يَحدث، واختلى بابني في غرفة المكتب، وقصَّ عليْه ابني القصص، ثم انصرف حزينًا كعادته.
قال لي زوجي: أريدُك وابنتك سنتحدَّث قليلاً.
ذهبتُ وأنا أتوجَّس شرًّا.
قال لي مغضبًا: ما هذا الذي أسمعه؟
فتحتُ فمي لأتحدَّث، فقال:
استمعي لي ولا تتحدثي الآن، إنَّ ما فعلتِه مع زوجةِ ابنِك لا يليق بمثلك؛ هلاَّ ذكرتِ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - حين سُئِلَ عنِ امرأةٍ تقومُ اللَّيلَ وتصوم النهار، وتُؤْذي جيرانَها فقال: ((هي في النار))، ((هي في النار))!، هلاَّ ذكرتِ قوْل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حسن الخلق يبلُغ بالمسلم منزلة الصائم القائم))! هلاَّ استحييتِ من عباد الله، الذين قاطعتِهم لأنَّهم وفَّقوا بين ابنك وزوجته - أن يروْا منك: أنك تأبيْنَ العفو عن أُمِّ حفيديْك، التي لم تظلِمْك ولم تتطاوَلْ عليْك! هلا استحييت يا ابنتي مِن الله تعالى أن يأخُذك بظلمك، وتأييدك أمك على الظلم، فيصيبك مع زوْجِك مثلما تفعلان!
مهما كانت المشاكل متفاقمة في البيوت، فهلاَّ اتَّقينا الله في الضرَّاء كما في السَّرَّاء، بل أشدّ تقوى! هلاَّ حكَّمنا بيننا كتاب الله الذي نتشدَّق بأنَّنا حَمَلَتُه!
هلاَّ اتقيتِ الله في زوجة ابنك! إنَّ أمَّ الزَّوج الملتزمة خيرُ عون لزوجة ابنها على التَّقوى، فهلاَّ كنت لها نِعْم الأم!
وكل ما حدث نقرة، وطرْدك لها من بيتك نقرة.
أهذا سلوك مقبول؟ أهذا هو ما تعلمتِه من الكرم؟!
ما الذي دهاك؟!
وظلَّ يؤنِّبُها حتَّى اضطرَّتْ إلى وعْدِه بإصلاح الأمور... على مضض!
* * * * *
أبشِّرُكم...
هذه القصَّة لا تمثِّل الملتزمين، فرْقٌ بين الملتزمين وبين بطلة القصَّة مثل ما بين الأرض والسَّماء.
وها أنتم تروْن زوجة الابن ودينها، وأبا الزَّوج ودينه، نموذج طيب.
فالأصل: أنَّ القرآن يدخل القلب، فتخالط بشاشةُ الإيمان القلوب.
هذا نموذج مريض لم أقابله، إلاَّ قليلاً بل نادرًا.
فقط ذكرتُه ليتَّعظ مَن كان له قلب، ويتَّقي الله مَن وقع في شيءٍ من دنَس هذه الدنايا.
فمثل تلك الأمور لا تصدُر إلا من هؤلاء الذين اتَّخذوا القرآن عضين.
الذين يقيمون حروفَه وينسون حدودَه.
عافانا الله وإياكم.
أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يقيَنا الظلم وأهلَه.
وأعوذ بكَ ربِّ أن أظلم عبدًا من عبادِك