وهكذا تكون عطاءات البلد الحرام.
فإذا ذهب إلى المقام ليصلي خلفه سنة الطواف، ورأى مقام إبراهيم، وهو آيةٌ بيّنةٌ على التوحيد "فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم" لأنه بقيّةُ أبي الأنبياء وباني كعبة التوحيد على وجه الأرض.
كل بقعةٍ في هذا البلد الحرام لها مع التوحيد قصةٌ قديمة وتاريخٌ عريق، حتى ذلك الحجر المسمى بمقام إبراهيم.
إنه بلدُ التوحيد، ولن تجد بلداً أولى بهذا اللقب من مكّة المكرمة، ولن تجد لقباً أولى بها منه. وإلاّ فَأَوْجِدْ لي بلداً له بإمام الحنفاء إبراهيم - عليه السلام - وبإمام الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - أوثق صلة، كما لمكة!
إنه بلد التوحيد.. منه بدأ التوحيد، ومنه انتشر، وفيه آياته ورموزه.
وإذا قلنا: (التوحيد) فهو أوّل وأعظم عبادة، بل هو الذي لا عبادة إلا به. فلا رضى لربنا - عز وجل - إلا به، ولا نجاة من الخلود في النار إلا بتحقيقه.
وكان هذا (التوحيد) أحدّ عطاءات البلد الحرام... وهكذا تكون عطاءاتُه!
أمّا ماء زمزم فهو خير ماء على وجه الأرض: طعامُ طُعْمٍ، وشفاءُ سُقم.
يُقبل عليه قاصدوه بعد أن أحرقت أجوافهم آهاتُ اللقاء، وسكبوا الدموع في تلك الساحات، فما نضب عطاؤه، ولا نقِص عن رِيٍّ ماؤه. يتضلّعون منه، فهو بركةُ التوكّل، وخفقةُ مَلَكٍ، له من البشر صلةٌ بإحدى أجلّ العبادات، وهي التوكّل، وله من طُهر السماء وبركتها خَفقةٌ من جناح أحد الملائكة. فكان الماءَ المباركَ الذي ما عرفت البشريّةُ أطهر ولا أعظم بركةً ولا أروى منه!!
هل تعرفون ماءً ما اعتاده أحدٌ إلا غصَّ بماءٍ سواه، والله إنه ماء زمزم! اسألوا أهل مكّة ممن اعتاد أن لا يشرب إلا ماء زمزم، هل طاب له ماءٌ سواه بعده، وكأنّ مريئًا أهْنَاه ماءُ زمزم لن يهنأ بغيره، ولو كان ماءً من النيل أو الفرات.
الماء رمـز الطــهارة.. وماء زمـزم أطـهر مــاء
الماء سـَبَبُ الحــياة.. وماء زمزم سببٌ لأطيب حياة: حياة إيمان وعافية
الـماء إنمـا يـروي.. وماء زمزم لا ريَّ كرِيَّه، وهو طعام يُغني عن الطعام.
الماء قد يحمل الـداء.. وماء زمزم شفاءٌ -بإذن الله- من كل داء
الماء شُرْبُهُ عــادة.. وماء زمزم شربه عبادة
الماء نعمةٌ تستوجب الحمد... وماء زمزم قُرْبَةٌ يُجيب لها ربُّنا دعاء العبد: "ماء زمزم لما شُرب له".
الماء لا علامة في شربه على الإيمان.. وماء زمزم علامةٌ للإيمان، وعدم التضلّع منه علامة على النفاق "آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلّعون من ماء زمزم".
فإذا ما نَعِمَ المشتاقون بوصال البيت المعظَّم، وانطفأت نيرانُ أكبادهم بماء زمزم، وسرت في دمائهم حبّاتُ قطراته، مطهّرةً مجاري الشيطان في عروقهم ببركاته. تكاد ترى قلوبهم قد خالطتها بشاشةُ التوكّل وثقتُه وعزّه المؤمنين به؛ لأنه الاعتماد على خالق الأرض والسماء وربِّ كل شيءٍ ومليكِهِ. وتكاد ترى مسحةَ المَلَكِ في نضارة جلودهم وضياء وجوههم؛ لأنهم قد غسلوا أجوافهم بماءٍ من خفقةٍ بجناح مَلَكٍ كريم.
وهكذا عطاءات البلد الحرام.
عندها يحتاجون إلى درسٍ عميقٍ حتى يصحّ منهم التوكُّل على الله - تعالى -، فيخرجون إلى السعي بين الصفا والمروة، رَمْزُ اتّباع الأسباب والأخذ بها، الذي علّمته الأمُّ هاجَر للبشريّة، بعد أن علمتهم التوكّل بقولها لزوجها الخليل - عليه السلام -: "من أمرك أن تضعنا بأرض ليس فيها زرعٌ ولا ضرعٌ ولا أنيس ولا زاد ولا ماء، فقال - عليه السلام -: ربي أمرني، فقالت: فلن يضيّعنا"، نعم لقد قالتها بكل وضوح وسهولة؛ لأنها قالتها بكمال الإيمان وتمام التوكّل: "لن يضيعنا". ومع ذلك خرجت تسعى بحثاً عن الماء بين الصفا والمروة، وتكرّر السعي بينهما، لترفع مناراً للتوكّل الصحيح، وأنه التوكل الذي لا يُغْفِل الأسباب، بل الذي يبذل الأسباب كلّها، ولا يعجز ولا ييأس من تكرار الأخذ بها حتى ينجحَ، ويحقّقَ الله ُ - تعالى - له المطلوب.
إنه درسٌ عميق للتوكّل الصحيح، ودرسٌ عميقٌ في بيان الصلة بين الدين والدنيا، وشرحٌ عمليٌّ للعبادة بمعناها الكامل الشامل، وبيانٌ واضحٌ لفهم هذه الملّة للعلاقة بين العبد وربّه. لو وَعَتْ أمّتنا هذه الدروس، ولو فقهت الحِكمة التي بذلتها لها هذه الشعائر، لما كانت يوماً إلا الأمّة القائدة الرائدة!
إنه الدرس الذي يُطبّقه القاصدون للصَّفا، والذي لا يخلو في كل خطوةٍ من خطواته من الارتباط الكامل بالرب - سبحانه -؛ ولذلك يتوجّهون إلى البيت كلّما صعدوا الصفا والمروة بالتهليل والتكبير والدعاء. وهُمْ بهذا التوجُّه إلى البيت، وهذا التوجُّه المتكرّر في خضمِّ ذلك السعي المتكرّر، يعلنون استمرار الولاء، وكأنّهم يُقسمون على حفظ العهد الذي بينهم وبين هذا البيت، وأنهم لن ينسوه في خِضِمّ (السعي)، نعم لن ينسوه في خضم حياتهم ولَهَثِم في طلب المعاش، والذي لن تجد أصدق وصفاً عليه من أنه (سَعْىٌ) في طلبه.
إنّ هذا الاستحضار للصلة بين العبد وربّه، التي لا تكون فقط في العبادة المحضة في حياة المسلمين، بل تكون فيها وفي كُلّ لحظات اليوم والنهار، وفي ساعات الانشغال بالدنيا وإعمارها هذا ما ميّزَ المسلمين عن غيرهم: ممّن فصلوا الدين عن الدنيا (كالغرب حاليّاً والأنظمة العلمانية)، وممّن جعلوا الدين بلا دنيا (كالغرب في القرون الوسطى، وكالفكر الصوفي في القرون المتأخّرة في العالم الإسلامي).