صورة من الحياة
ما إن أخذت مكاني من الطائرة حتى رأيت ذاك الرجل كان أكثر المسافرين حديثاً وانشراحاً ، ولم يترك فرصة لتقديم المساعدة لأحد إلا بادر.
وعلى الرغم من جسده النحيل وقامته الصغيرة فإنه بدا أكثر أهل الرحلة الجوية نشاطاً.
أقبل نحوي وقال : يبدو أنك صديقي في الرحلة ومرافقي في المقعد .
أجبت : يبدو ذلك .
ثم بدأ بأذكار السفر وقال لي: أتعرف أنني تعلمت هذا الدعاء من مذيع الطائرة.. جزى الله خيراً من بادر لنشره وإذاعته .
قلت: يبدو أنك تسافر كثيراً ؟ .
قال: نعم ، كل أسبوعين ، كل نصف شهر أسافر إلى الرياض لأخذ الكيماوي ؛ لقد ابتليت بمرض خطير.
ثم أخذت أسترسل معه في الحوار فعرفت أنه فراش في دائرة حكومية وأنه أب لسبعة أطفال أكبرهم في التاسعة ، وبقية ذريته من الإناث ، ثم تابع :
تعرف يا أخي.. إن نعم المولى كثيرة ووالله إنني بخير أشعر أنني بنعمة مادمت أدب على الأرض ، وعقلي معي ولساني يلهج بالثناء لصاحب المجد والملكوت .
سألته وقد كانت هيئته تدل على ضعف الحال : هل تملك داراً لك ولأولادك ؟ .
قال لي: يا " مطوع " السعيد هو الذي يملك داراً هناك في الفردوس .. أما هنا فالديار عارضة .
ثم تحدثت معه عن أسرته ومصاعبه المادية فبدا إيمانه عميقاً ، وتوكله مطلقاً مع ما يواجهه من نوائب .
كان مما قال لي: تعرف أنني لا أملك بيتاً ولكني مطمئن.. مطمئن تماماً لو نزل القضاء قريباُ .
استمر الحديث حتى قطعته إطارات الطائرة وهي ترتطم بالأرض.
ولا أدري لماذا شعرت بالارتباط بهذا الإنسان البسيط ، لقد تعلمت منه معاني عظيمة نعرفها جميعاً ، لكن لا يطبقها أو يمارسها بتلك القناعة سوى من رزقوا توكل الطير الخماص وهي تغدو .
كم كان رائعاً وهو يضع مفاهيم القدر والسبب ، وكم كان مقنعاً وهو يعيش النظرية والتطبيق بلا انفصام ، كم كان كريماً وهو الفقير ، ومقداماً وهو الضعيف ، وشريفاً وهو المكافح ، ومطمئناً في عصر القلق ..
وتفارقنا وأنا أصر أن يقبل دعوتي لإيصاله للمستشفى وهو يجيب بلهجة حازمة : سائق سيارة الأجرة ينتظرني.. إني أعرفه ، وأنا أعينه وهو أبو العيال عندما أنقده الأجرة.. لا جعلك الله سبباً في قطع رزق محتاج .
حقاً كم هو عظيم هذا الدين وهو يحول هذه الشخصيات إلى أمثلة للفطرة السليمة والإيمان العميق في عصر القلق والبعد عن الله .
الكاتب: د. عمر عبد الله.