ماذا فعلَتِ الأختُ؟
شهرٌ كاملٌ تُجاهِدُ زوجَها، وتُحَدِّثُه عن إحدى الأَخَوات المُطَلَّقات بالمسجد، طبعًا اختارتْ لا إراديًّا واحدةً، ظنَّتْ هي أنَّها أقلُّ منها جمالاً، وظَلَّتْ تُحَدِّثُه عنها، وعن مفاتِنها، حتى أحبَّها، ولا عجب، إذِ الأُذُنُ تَعْشَقُ كما البَصَر، حتى وافَقَ الزَّوْج.
وجاء اليوم الميمون، يوم نجحتْ خطتها، وذهبَ زوجها ليخطبَ الأختَ المختارة، بدون زوجته طبعًا، فماذا حَدَثَ في ذلك اليوم؟
ذهب الزُّوج للرُّؤية الشَّرعيَّة، وكانتِ المرأةُ رائعةً، وحَسَنة الخَلْق والخُلُق، ووَافَقَ الزوجُ، وتَمَّتِ الخِطبة في نفس الجلسة، وكان الزَّوج قد خرج منَ البيت في الثامنة، وعند خُرُوجه لم تكنِ الزوجة تشعرُ بشيءٍ، ثمَّ مَرَّت ساعة، فبدأتِ الزَّوجة تَشْعُر بِغَيْرة، شعور خانقٌ، راحتْ تُفَكِّر: ترى كيف هما الآن؟ هل أعْجَبَتْه؟ ماذا قال لها؟ ماذا قالتْ له؟ ابتسمتْ له؟ هل وجد ابتسامتها أفضل من ابتسامتي؟ ترى هل سيراها أجمل؟
راحتِ الوساوس تَنْهَشُها كحيَّة رقطاء، قامتْ للصلاة فلم تستطعِ التركيز، مَرَّتْ ساعة أخرى، تحاول النوم فلا تستطيع، تقرأ القرآن فترى على الصفحات بعين الخيال زوجَها يَتَحَدَّث بِلُطْفٍ مع الأخرى، مرت ساعة أخرى، وأخرى، وأخرى، وصاحبتنا لم يغمض لها جفنٌ، ولا تستطيع الصلاة، ولا قراءة القرآن.
وطبعًا لم يَخْطُر ببالِها الدُّعاء، فهي مَن جلبتِ الدَّاء، وهي لم تظن أنَّه داء، في النِّهاية تَكَوَّمَتْ على نفسها على كرسي بجوار الباب، ومنَ التَّعَب راحتْ في السُّبات.
حَضَر الزَّوج وفَتَحَ الباب، كان سعيدًا ومُنتشيًا، اسْتَيقظتْ مع دخولِه البيت، وَلَمَّا رأتْ مظهره ازدادتْ غيرتها ووَحْشَتُها.
لاَطَفَهَا وابْتَسَمَ لها، فعبست في وجهه، ثم ناما وأصبحا، والزَّوج لا يدري ما الذي يحدثُ لِزَوْجِه، تَغَيَّرَتِ الزوجة الحنونُ إلى زوجةٍ شرسةٍ، سيئة الخُلُق، هي لا تدري لماذا؟ وهو متعجبٌ مما يحدث، وجاء اليوم الذي قال لها فيه بِسعادة: الأُسْبوع القادم العَقْد والبِناء.
فماذا حدث؟
أُسْبوع مَرَّ على الزوجة كأنَّه دَهْر، صلاتُها كأنما لم تُصَلِّ، هَجَرَتْ كتابَ الله - تعالى - لا تقرأ، ولا تراجع، ولا حتى تحاول، عينها لا تنام، وهي لا تدري ماذا يحدث لها؟ ولا لماذا صارتْ على تلك الحال؟
اتَّصَلَتْ بصديقةٍ لها تعرفها منذ زمنٍ، وتعرف رجاحة عَقْلها، وزَوْجُها مُتَزَوِّجٌ هي الأخرى؛ لكن حالها ليس كحال صاحبتنا، كَلَّمَتْها لِتَشْكوَ لها ما تجدُ منَ الأَلَم، ويبحثا عن حلٍّ.
رَدَّت صاحبتها على الهاتف، خَرَجَ صوت صاحبتنا شَاحبًا ميتًا؛ كأنه يأتي من قبرٍ سحيقٍ.
قالتِ الصديقة: فلانة، ما بكِ؟ لَمْ أركِ بهذا الحال أبدًا، كنتِ دومًا ضاحكةً مستبشرةً، فماذا حَدَثَ؟
قَصَّتْ عليها القصة كلها، والصديقة الوفية ترهف أذنها جيدًا، ولم تقاطِعها كأنَّما هي أذنٌ كبيرةٌ تحتوي مُرَّ شكوى الأخت بحنانٍ وحبٍّ.
عندما انتهتْ، قالتِ الأختُ: والآن أَخْبِريني، ماذا أفعل؟ كيف أصيرُ مثلكِ لا أغار؟
ابتسمتِ الصديقةُ الوفيةُ، وقالتْ: حبيبتي، هل قال لكِ أحدٌ مِن قبلُ: إنَّني أنا التي سعيت لِتَزْويج زوجي؟
سَكَتَتِ الأخت، وقالتْ: لا أعلم.
قالتِ الصَّديقة: حبيبتي، أنتِ فعلْتِ خطأً فاحشًا، لم يكن ينبغي لمثلكِ أن تقعَ فيه.
قالتْ مستنكرةً: أنا، خطأ، هل تطبيق السُّنَّة خطأ؟
ابتسمتِ الأختُ الصديقة الوفيةُ، وقالتْ: حبيبتي، لو لم يَكُنْ خطأ لَمَا وجدتِ ما تجدينَ الآن، لقدْ فتحتِ بابًا من أبواب الشيطان، وأنتِ تَظُنينَ أنَّكِ تحسنينَ صنعًا؛ إنَّ الله - تعالى - يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77].
ما معنى هذا؟
إنَّ الله - تعالى - يَذُمُّ الذين استعجلوا القتال في وقت الأمر بالسلم في مكة، ويوجههم إلى تزكية نفوسهم بالصَّلاة، والزَّكاة، وعدم التَّطَلُّع لما لم يُفرَض عليهم.
فأنتِ يا أختي العزيزة، عافاكِ الله من بلاءٍ سَعَيْتِ خلفَه، وظَنَنْتِ فيه صلاح قلبكِ، وتَرَكْتِ ما افْتَرَضَه الله عليكِ من حُسْن تَبَعُّل، ومراعاة البيت والأولاد، والصلاة طبعًا، والزكاة، والصدقات، وذهبتِ تَبْحَثينَ عن عمل لم يُفْرَضْ عليكِ.
ألم تسمعي أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تَتَمَنَّوا لقاء العدو، وسَلُوا الله العافية، وإذا لقيتموه فاثْبُتوا))، فأنتِ سَعَيْتِ سعيًا حثيثًا لِلِقاء العدو، ولم تُدركي أنَّكِ لستِ أهلاً لذلكَ؛ إلاَّ بعد أن أصابكِ مِنَ الهَمِّ ما أصابكِ.
قالت الأخت في تَخَاذُل: الزوجة الثانية ليستْ عدوةً، إنَّها...
قاطَعَتْها الصديقةُ الوفيةُ: حبيبتي، لا أعنِي الاصطلاحَ بِعَيْنه، إنما قصدتُ المفهوم، فإنَّ هذا الأمر فتنة شديدةٌ على أيِّ امرأةٍ؛ لأنَّ النِّساء يَغِرْنَ جدًّا على الرَّجُل، هذا ما جَبَلَهُمُ الله - تعالى - عليه.
ولِهَذا فإنَّ الزَّوْجَ إذا تَزَوَّجَ، فقد ابْتَلَى الله - تعالى - المرأةَ؛ لِتَصْبِرَ، فإنْ صَبَرت فذلكَ خَيْرٌ، وقد أمر الله - تعالى - المرأةَ ألاَّ تطلبَ طلاق ضرَّتِها؛ لكن لم يأمُرْها بأن تسعى لِتُزَوِّجَ زوجَها؛ بل ولم يَنْهَها عن محاولة مَنْع زوجها بِطُرق مشروعةٍ عنِ الزَّواج، فإنَّ الله - تعالى - لا يُكَلِّفُ نفسًا إلاَّ وُسْعَها.
قالتْ: لكنَّكِ كنتِ قدوةً لي في ذلك، غرتُ من صبركِ، و...
قَاطَعَتْها في حنوٍّ: حبيبتي، أنا لم أسعَ لِتَزْوِيجِ زَوْجِي، هو تَزَوَّجَ، وقد حاولتُ منعَه، فلم أُوَفَّق، تعامَلْتُ مع طبيعتي التي خَلَقَها الله - تعالى - كما هي، لم أُحاوِلْ التَّنَطُّع في الأمر، ولا ادِّعاء ما ليس من طبعي الجِبِلِّي، فقط تركتُ الأمور تسيرُ، وتعاملتُ معه كما يعامِلُ المؤمنُ الابتلاءَ، فصبَرْتُ، ودعوتُ اللهَ، وكم مَرَّ عليَّ منَ الليالي أَبْكِي في جوف اللَّيل، وأدعو الله أن يرزُقَني الصَّبر، ويربطَ على قلبي.
كم مَرَّ عليَّ منَ الأيام يَضيق بها صدري، فأستعينُ بالله، وأقرأ باب الصَّبر من "رياض الصالحين"، أو أيَّ كُتُب تَتَحَدَّث عن الصَّبْر؛ لهذا، فأنا الآن - ولله الحمد - قد هَدَأَتْ نفسي التي كانت مُضطربةً، وأسألُ الله - تعالى - الثَّبَات والأجرَ.
قالتِ الأخت: وماذا أفعل الآن، هل أسعى لِمَنْعِه؟
قالتِ الصديقة: حبيبتي، أما وقد سبق السَّيف العَذَل، فليس مِن حقِّكِ أن تطلبي طلاق ضرتِكِ؛ بل عليكِ بالدُّعاء، والابتهال، وحُسْن التَّبَعُّل لِزَوْجكِ، وجميل المعاملة، عليكِ بالصبر، والتَّصَبُّر، والمُصَابَرة، اقْرئِي كُتُبًا عنِ الصبر، وثواب الصبر، تعاملي مع الأمر بحكمةٍ وتقوى، اقرئي سيرة نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وانظري كيف حكمتِ التَّقوى أفعالهنَّ رغم الغيرة.
حبيبتي في الله، ثَبَّتَنِي الله وإيَّاكِ على التُّقَى والصَّبر، إنَّ زواجَ زوجكِ مرَّة ثانية، أو ثالثةً، أو حتى رابعة ليس نهاية العالَم، وليس ظُلمًا لكِ، فقط تَعَلَّمي أنَّ الدُّنيا ليست دار جزاء؛ بل هي دار ابتلاء، وأن الآخرة هي دارُ القَرَار، فألْقِي الدنيا خلف ظهركِ، ولا تُبالِي، وافْعَلِي ما أَمَرَكِ الله - تعالى - به، ثم بعد ذلكَ لا تُلقِ بالاً ولا هَمًّا لِمَا يأتي.
ثم أردفتْ بِمَرحٍ: ولو سَأَلَتْنِي مُلحدةٌ أو كافرة: هل أنتِ سعيدة، وقد ظلمَكِ الإسلام بإباحةِ زواج زوجكِ؟ سَأُخْرِجُ لها لساني، وأقول: لم يَظْلِمْنِي الإسلامُ أبدًا، فالظُّلم هو أن أمنعَ حقًّا أَسْتَحِقُّه، والإسلام لم يمنَعْني حقًّا أستحقه؛ بل أعطاني كلَّ حقوقي، وأمَّا الزواج الثاني، فهو حقٌّ للرَّجُل، أعطاه الله له، ومَن حَرَّم الزواج الثاني فقد ظلم الرجل، ومنعه حقًّا أعطاهُ الله له.
والزواج الثاني حُكْمُه كالزواج الأول، قد يكون واجبًا، أو مُسْتَحَبًّا، أو مكروهًا، أو مُحَرَّمًا، على التفصيل المشهور في كُتُب الفقه، وهو في كلِّ الأحوال خيرٌ منَ الفَوَاحش التي تموج بها مجتمعات الكُفَّار، والتي تهدر في الواقع كلَّ حقٍّ آدميٍّ للرَّجُل والمرأة؛ بل والطفل على السَّواء، فالظُّلم إنما هو فيما سَنَّهُ الناس لا فيما شَرَعَهُ الله أبدًا، وأنا راضيةٌ بِقَدَرِ الله وسعيدةٌ، فقط إن كان الله قد رضي عليَّ، ولا أبالي بهذه الدَّنايا من غيرة وخِلافه، ما دمتُ على درب الحقِّ أسيرُ.
فإنَّ المسلمَ ينظر للدُّنيا كما ينظرُ الراكب إلى راحلةٍ اسْتَأْجَرَها، ماذا يفعل الراكبُ بالراحلة المستأجرة إذا بلغ الهَدَف؟
فالهدفُ الجنَّة، وفي الجنَّة نَلْتَقِي، اللَّهُمَّ آمين.