منتديات موقع بشارة خير - عرض مشاركة واحدة - الفراسة والذكاء
عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 2005-03-25, 7:35 PM
محمد حسام أمين
معبر معتمد رقم11
الصورة الرمزية محمد حسام أمين
رقم العضوية : 1038
تاريخ التسجيل : 7 - 9 - 2004
عدد المشاركات : 4,370

غير متواجد
 
افتراضي
مرّ بعمر رضي الله عنه سواد بن قارب ولم يكن يعرفه فقال: لقد أخطأ ظني وإنّ هذا كاهنٌ، أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية، فلما جلس بين يديه سأله عمر عن ذلك، فقال: صدقت يا أمير المؤمنين: كنت كاهناً في الجاهلية.

قال ابن القيم: وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة. ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أموراً عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سِفراً ضخماً.

وقال مالك عن يحيى بن سعيد إن عمر بن الخطاب قال لرجل ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال ابن شهاب، قال: ممن، قال: من الحرقة، قال أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: أيها قال بذات لظى، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال.

وقال الحارث بن مرة نظر إياس بن معاوية إلى رجل فقال هذا غريب وهو من أهل واسط وهو معلّم وهو يطلب عبداً له آبق، فوجدوا الأمر كما قال، فسألوه فقال رأيته يمشي ويلتفت فعلمت أنه غريب، ورأيته وعلى ثوبه حمرة تربة واسط، فعلمت أنه من أهلها، ورأيته يمر بالصبيان فيسلم عليهم ولا يسلم على الرجال فعلمت أنه معلم، ورأيته إذا مر بذي هيئة لم يلتفت إليه، وإذا مر بذي أسمال تأمله فعلمت أنه يطلب آبقا.

ومن دقيق فراسة الصحابي جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه أن قال الشعبي كان عمر في بيت ومعه جرير بن عبد الله فوجد عمر ريحا فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لمّا قام فتوضأ، فقال جرير يا أمير المؤمنين أو يتوضأ القوم جميعا فقال عمر: يرحمك الله نعم السيد كنت في الجاهلية ونعم السيد أنت في الإسلام.

ومن دقيق الفراسة أن المنصور جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارة فكسب مالا، فدفعه إلى امرأته، ثم طلبه منها، فذكرت أنه سرق من البيت ولم ير نقباً ولا أمارة، فقال المنصور منذ كم تزوجتها، قال منذ سنة، قال بكرا أو ثيبا، قال ثيبا، قال فلها ولد من غيرك، قال لا، قال فدعا له المنصور: بقارورة طيب كان حاد الرائحة وغريب النوع فدفعها إليه وقال له تطيب من هذا الطيب فإنه يذهب غمك فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم، فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحد فليأت به، وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته فلما شمته بعثت منه إلى رجل كانت تحبه وقد كانت دفعت إليه المال فتطيب منه، ومر مجتازا ببعض أبواب المدينة فشم الموكل بالباب رائحته عليه فأتى به المنصور فسأله من أين لك هذا الطيب فلجلج في كلامه، فدفعه إلى والي الشرطة فقال إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخل عنه وإلا اضربه ألف سوط، فلما جرّد للضرب أحضر المال على هيأته فدعا المنصور صاحب المال فقال: أرأيت إن رددت عليك المال تحكّمني في امرأتك، قال نعم، قال هذا مالك، وقد طلقت المرأة منك.

وقال رجل لإياس بن معاوية: علمني القضاء فقال إن القضاء لا يعلم إنما القضاء فهم، ولكن قل: علمني من العلم. وهذا هو سر المسألة فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فخص سليمان بفهم القضية وعمهما بالعلم. وكذلك كتب عمر إلى قاضيه أبي موسى في كتابه المشهور وقال له: الفهم الفهم فيما أدلي إليك. والذي اختص به إياس وشريح وغيرهم من أهل الفراسة مع مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم هو الفهم في الواقع والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال، وهذا الذي فات كثيرا من الحكام والقضاة فأضاعوا كثيرا من الحقوق.

ومن الفراسة غير ما تقدم ما يسمى بالفراسة في تحسين الألفاظ وهو باب عظيم اعتنى به الأكابر والعلماء، وله شواهد كثيرة في السنة وهو من خاصية العقل والفطنة، فمن ذلك: أن الرشيد رأى في داره حزمة خيزران فقال لوزيره الفضل بن الربيع ما هذه؟ قال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين ولم يقل الخيزران لموافقته لاسم أمه.

ونظير هذا أن بعض الخلفاء سأل ولده وفي يده مسواك ما جمع هذا قال: ضد محاسنك يا أمير المؤمنين.

وخرج عمر رضي الله عنه يعس المدينة بالليل، فرأى نارا موقدة في خباء فوقف وقال: يا أهل الضوء، وكره أن يقول يا أهل النار.

وسئل العباس أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.

ومن ألطف ما يحكى في ذلك أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن اسمه فقال سعد يا أمير المؤمنين فقال أي السعود؟ قال: سعد السعود لك يا أمير المؤمنين، وسعد الذابح لأعدائك وسعدٌ بلع على سماطك، وسعد الأخبية لسرك فأعجبه ذلك. ويشبه هذا أن معن بن زائدة دخل على المنصور فقارب في خطوه فقال له المنصور: كبرت سنك يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: إنك لجلد، قال: على أعدائك، قال: وإن فيك لبقية. قال: هي لك يا أمير المؤمنين.

وأصل هذا الباب قول الله تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إذا كلم بعضهم بعضا بغير التي هي أحسن فرب حرب وقودها جثث، أهاجها القبيح من الكلام. وفي الصحيحين من حديث سهل بن حنيف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي)) وخبثت ولقست متقاربة المعنى، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ الخبث لبشاعته وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه وإن كان بمعناه تعليما للأدب في المنطق وإرشادا إلى استعمال الحسن وهجر القبيح في الأقوال كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال.

أيها المسلمون: ومن الفراسة، التأمل والنظر في عواقب الأمور ومآلاتها فعلاً وتركاً، وهذا هو المقصود الأعظم في باب الفراسة، وهو ما يسمى بفقه المقاصد في الفعل والترك، النظر في عواقب الأمور، وعدم الاقتصار على النظرة السطحية القريبة، وهذا أمر لا يُفتح لكل أحد، ومن رزق هذا الباب فقد أوتي خيراً كثيراً، هذه المسألة من المسائل المهمة جداً، والتي يترتب على الاخلال بها وعدم فقهها: فوات كثير من المصالح. فأحياناً يكون هناك تعارض بين مصلحتين لايمكن الجمع بينهما، فما العمل؟ وأحياناً تتعارض مفسدتان لايمكن الخلو من أحدهما، فما العمل؟ وأحياناً تتعارض مصلحة ومفسدة لايمكن التفريق بينهما، بل فعل المصلحة مستلزم لوقوع المفسدة، وترك المفسدة مستلزم لترك المصلحة، فما العمل؟ وهذا باب واسعٌ ومهم جداً، ونحن في واقعنا المعاصر كثيراً ما نحتاج اليه أكثر مما سبق من الأوقات يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله (وهذا باب التعارض باب واسعٌ جداً لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل ووجود ذلك من أسباب الفتنة في الأمة) انتهى[1]. يقصد رحمه الله أنه كلما رق الدين، ونقصت آثار النبوة في المجتمعات، كلما كثر التعارض، وكلما كان الواقع والحياة أقرب الى الدين وأقرب الى تطبيق شرع الله قل التعارض والله المستعان. والمتأمل في واقعنا يجد التعارض في كل شيئ، ما من قضية إلا وهناك العقبات والمعوقات والتعارضات، وهذا إن دل على شيء فانما يدل على البعد عن الدين، نسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته. ومن رزق فقه المقاصد والنظر في عواقب الأمور يفتح الله عليه بترك المرجوح من الأمور وهذا كما قلت من أعظم أنواع الفراسة.

ومن الفراسة: معرفة أحابيل المجرمين وطرائقهم ودسائسهم في تدمير عقائد الناس وأخلاقهم. وما تمكن أعداء الشريعة وخصوم الملة من بعض الأشياء إلا عندما كثر المغفلون في الأمة، تمرر قضايا أحياناً تتعجب من سذاجة المسلمين وقبولهم له، وإلى أي درجة من الغفلة يعيشون، ولعل من أقرب الأمثلة التي يحضرني الآن هو ما طرحته وسائل الإعلام، من شفقة الغرب على أبناء كوسوفا والمساعدات التي قدموها لأجل سواد عيون المسلمين هناك، ومدى حرقتهم على ما حصل لهم. وليس الآن هو مجال تحليل مثل هذه القضية.

ومن الفراسة: أن يعرف المؤمن المجرمين في مجتمعه بسيماهم، وأن يعرفهم في لحن القول بفلتات لسانهم، وما تخطه أيديهم أحياناً، فلان يسمح له بالكتابة، ويطرح قضايا تنقض أصل الدين، ثم لا يرد عليه، فيعلم المؤمن بفراسته أن وراء الأكمة ما ورائها.

ومن الفراسة: معرفة أهل الحق المخلصين، تعرفهم بحرب المبطلين لهم، وتعرفهم بشنآن أهل الشهوات لهم، تعرفهم بصدق اللهجة، واضطراد المنهج، وتعرفهم بمحبة الناس لهم، وتعرفهم بما يحقق الله على أيديهم من الخير، وما يُكَف بسببهم من الشر عن الناس. وهذه فراسة مع كل أسف لا تظهر لكثير من المسلمين. وإلى الله المشتكى.

أيها الأحبة: لما كان الناس قريبون من ربهم، متمسكون بالدين، قلباً وقالبا، ظاهراً وباطنا، كثر أهل الفراسة في الناس وقل عدد الأغبياء، وحصل بسبب ذلك خير كثير، ولما بعد الناس عن الدين والله المستعان حصل العكس من ذلك وكثرت الفتن، يقول سفيان الثوري رحمه الله: كان العلماء يعرفون الفتن قبل أن تقبل وقبل أن تأتي، فإذا ذهبت عرفها الناس، واليوم تقبل الفتن فإذا ذهبت عرفها العلماء.

وأخيراً: فإن المسلم الملتزم حقيقة له قضية يعيش من أجلها، وليس حاله كحال الدهماء، والقضية التي يعيش من أجلها تحتاج إلى فراسة وذكاء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنجز قضيتك بالغفلة والسذاجة.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا ولم بها شعثنا ورد بها الفتن عنا.

اللهم صلِّ على محمد . .

منقول عن الخطب الموءثره و صاحب الخطبه ناصر محمد الأحمد


توقيع محمد حسام أمين
لانعبر على الخاص أو الإيميل فنحن مؤتمنون من صاحب الموقع