ولما همّت العجوز بالإنصراف قالت لها هند
ساعديني واكشفي عني الكروب
ثم نوحي عند نوحي ياجنوبْ
واندبي حظي ونوحي علناً
إن حاليَ بَعْده شيءٌ غريبْ
ما رأت مثلي زليخا يوسفٍ
لا ولا يعقوب بالحزنِ العجيبْ
فقعدت العجوز على باب الدار حتى أقبل بشر فسألته أن يكتب
لها رسالة إلى إبنها في العراق فقعد وراحت تملي عليه
وهند تسمع كلامهما
فلما فرغ قالت العجوز لبشر يا فتى، إني أراك مسحوراً
فقال لها ما أعلمك بذلك؟
فأجابته ما قلت لك إلا وأنا متيقنة فانصرف عني اليوم حتى
أنظر في أمرك
ثم دخلت إلى هند وبشّرتها قائلة إني أراه فتى حدثاً ولا
عهد له بالنساء ومتى ما أتى وزيّنتك وطيّبتك وأدخلتك
عليه غلبت شهوته وهواه دينه
وفي مرة كانت قدإاتفقت فيها مع هند، دعته لتنظر له نجمه
فأدخلته إليها وأغلقت الباب عليهما فلم يشعر إلاّ والباب
أقفل ووقفت أمامه حسناء كأنها البدر وقد إرتمت عليه
وأخذته إليها وهي تقول
يا بشر واصلني وكنْ بي لطيفاً
إني رأيتك بالكمالِ ظريفا
وانظر إلى جسمي وما قد حلّ بي
فتراه صار من الغرام نحيفا
فلما رأها راعه جمالها وعلم ببراعته أنها هند التي هجر
مقره من أجلها فتباعد عنها متعطفاً وأنشد متلطفاً
ليس المليحُ بكاملٍ في حسنهِ
حتى يكونُ عن الحرامِ عفيفَا
فإذا تجنب عن معاصي ربه
فهنالك يدعى عاشقا وظريفا
فجاء زوج هند في غير عادته في كل يوم فوجد مع إمرأته
رجلاً في البيت فطلقها ولبب الفتى أي طوقه وجره وذهب به
إلى رسول الله فكبى بشر أمام الرسول وحلف بأنه ما كذبه
منذ صدقه وما كفر بالله منذ آمن به وقص على النبي قصته
فبعث النبي إلى العجوز وهند فأقرتا بين يديه فقال الحمد
لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق فأدب العجوز
وأعاد هند إلى منزلها
بعد هذه الحادثة هاج بشر بحب هند وإنتظر إنتهاء عدتها
ليخطبها، لكن هند رفضت أن تتزوجه بعد أن فضحها عند رسول
الله ، فجاءها رسول من أهله يعلمها بأنه طريح الفراش وقد
يموت إن هي لم ترض به فقالت أماته الله فطالما أمرضني
فكتب إليها يقول
أرى القلب بعد الصبر أضحى مضيّعا
وأبقيت مالي في هواك مضيّعا
فلا تبخلي يا هندُ بالوصل وارحمي
أسير هوى بالحبِ صارَ مَضْيّعَا
فلما وصلتها الأبيات كتبت تحتها تقول:
أتطلب يا غدَّار وصلي بعدما
أسأت ووصلي منك أضحى مضيّعَا
ولما رجوتُ الوصلَ منك قطعته
وأسقيتني كأساً من الحزن مُتْرَعا
واخجلتني عند النبي محمد
فكادت عيوني أن تسيل وتطلعا
وزادت هذه الأبيات من لوعته وأضرمت نيران الحب في قلبه
فكتب إليها
سلام الله من بعد البعاد
على الشمس المنيرةِ في البلادِ
سلام الله يا هندُ عليك
ورحمته إلى ييومِ التنادي
وحقِّ الله لا ينساك قلبي
إلى يوم القيامةِ يا مرادي
فرقّي وارحمي مضنى كَئيباً
فبشر صار ملقى في الوسادِ
فداوي سقمه بالقرب يوماً
فقلبي ذابَ من ألم البعادِ
لكن جرحها كان أكبر من أن تبلسمه الكلمات وفضيحتها كانت
أوسع من أن تحصرها الزفرات فردت عليه تقول
سلامُ الله من شمسِ البلادِ
على الصبَّ الموسد في المهادِ
فإن ترجُ الوصال وتشتهيه
فأنت من الوصالِ على بعادِ
فلست بنائلٍ منّي وصالاً
ولا يدنو بياضك من سوادي
ولا تبلغ مرادك من وصالي
إلى يوم القيامةِ والتنادي
فلما وصل إليه الكتاب إمتنع عن الطعام والشراب حتى إشتدت
علّته وكانت له أخت تواسيه فطلب منها أن تأتيه بهند
فلما علمت هند بأنه على آخر رمق من الحياة سارت معها
إليه فوجدته يقول
إلهي إني قد بُليت من الهوى
وأصبحتُ ياذا العرش في أشغل الشغلِ
أكابد نفساً قد تولّى بها الهوى
وقد ملّ إخواني وقد ملّني أهلي
وقد أيقنتْ نفسي بأني هالكٌ
بهندٍ وأني قد وهبتُ لها قتلي
وأني وإن كانت إلي مُسيئة
يشقُّ عليَّ أن تعذّب من أجلي
فبكت هند وبكى معها كل من كان حاضراً وأنشدت
أيا بشر حالك قد فنى جسدي
وألهب النار في جسمي وفي كبدي
وفاض دمعي على الخدين منسكباً
وخانني الدهر فيكم وانقضى رشدي
ما كان قصدي بهذا الحال أنظركم
لا والذي خلقَ الإنسانَ من كمدِ
فما سمع كلامها أوما إليها وأنشد:
أيا هند إذا مرّت عليك جنازتي
فنوحي بحزنٍ ثم في النوح رنّمي
وقولي إذا مرّت عليك جنازتي
وشيري بعينيك عليَّ وسلّمي
وقولي رعاكَ اللهُ يا ميَّّتَ الهوى
وأسكنكَ الفردوسَ إن كنتَ مسلم
ثم شهق شهقة وفارقت روحه الدنيا فلما رأته إرتمت عليه
وأنشدت
أيا عينُ نوحي على بشر بتغرير
ألا ترويه من دمعي بتقديرِ
يا عينُ أبكي من بعد الدموعِ دماً
لأنه كان في الطاعات محبورِ
لفقدِ بشرٍ بكيتُ اليومَ من كمدٍ
لا خير في عيشةٍ تأتي بتكديرِ
ألقاك ربك في الجناتِ في غُرَفٍ
تلقى النعيم بها بالخير موفورِ
ثم ألقت بنفسها عليه وحركوها فإذا هي ميتة فغسلوهما
ودفنوهما معاً.
منقولة
التعديل الأخير تم بواسطة كسرالخواطر ; 2008-09-26 الساعة 5:47 AM.
|