الوقفة السابعة: حول الدليل والبرهان:
لقد طالب أهل الكهف قومهم بسلطان وحجة (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان مبين) ذلك أن الدليل والحجة والبرهان منطق مهم ينبغي دائما أن يحكم ما نقول في كل قضية؛ فالحق أبلج والباطل لجلج، إن أولئك الذين يستخدمون أسلوب الإثارة والتهويل وإصدار الأحكام الجاهزة يفرون من منطق الحجة والبرهان ولا يخشى الدليل والبرهان والحجة ولا يفر من الحوار إلا أولئك الذين لا يملكون ما يقدمون ولا يستطيعون أن يقنعوا الناس بقضيتهم.
إن الله عز وجل دعا أولئك الذين تجرؤوا على الشرك فقال (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) ، ودعا أولئك الذين نسبوا الولد إلى الله عز وجل أن يأتوا ببرهان أو حجة، ونعى تبارك وتعالى على أولئك الذين يسيرون ويتبعون كل ناعق، وما جاء التقليد في موضع القرآن إلا موضع الذم والنعي، بل جاء التشبيه لأولئك الذين يسيرون خلف كل ناعق بالدواب (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي) إنهم الراعي حينما يسير بغنمه فهو ينعق بها ويصيح بها فالغنم تسمع صوت الراعي ولكن لا تفقه ما يقول، تسمعه يدعوها فتسير وراءه.
إن هذا المنهج ينبغي أن يسود في دعوتنا وأن تتربى عليه الأمة، وليس من مصلحة الأمة أن يغيب عنها الوعي أو أن تكون أمة مغفلة كالقطيع.
الوقفة الثامنة: الصلة بالله عز وجل:
لقد اعتزل أهل الكهف أقوامهم، ولجؤوا إلى الله وحده، وهم بذلك يرسمون لمن بعدهم منهجاً وطريقاً لاغنى لهم عنه، إنه الصلة بالله تبارك وتعالى.
وهاهو هذا الدرس نتلقاه من قصة موسى عليه السلام في سورة القصص (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين. ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهدني إلى سواء السبيل) ثم لما أوى إلى الظل قال (رب إن لما أنزلت إلى من خير فقير).
وحين ذكر الله تبارك وتعالى طائفة من أخبار الأنبياء في سورة الأنبياء قال عنهم: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) فحري بالدعاة أن لا تغيب عنهم هذه القضية في كل موقف وفي كل حين.
والمؤمن الموصول بالله يجد الطمأنينة والسكينة في كل ما يواجهه، فحينما أمر الله موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون قالا (ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغي. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)
الوقفة التاسعة: بذل الأسباب يعين على الثبات:
لقد أكرم الله تبارك وتعالى هؤلاء الفتية ووفقهم للثبات على دينه، بعد أن صدقوا مع الله وبذلوا الأسباب، ومنها:
1. أنهم آمنوا بالله عز وجل إيماناً صادقاً. 2. لما رأوا أن بقاءهم مع قومهم قد يكون سبباً لفتنتهم تركوا قومهم وأووا إلى الكهف فراراً بدينهم. 3. حين بعثوا أحدهم ليأتي بالطعام، أمروه بالحذر حتى لايشعر بهم قومهم فيردوهم (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً).
إذن فالمسلم حتى يثبته الله يحتاج أن يبذل الأسباب، وأن يجتهد فيبتعد عن مواقع الفتن ويحذر منها، ثم يكل أمره إلى الله، أما الذي يرمي نفسه في اليم ويسأل الله الثبات فهذا لم يعمل السبب الذي يستحق من أجله أن يوفَّق ويعان.
الوقفة العاشرة: حفظ الله لهم:
حين ذهب الفتية وغادروا قومهم رأوا كهفا فأووا إليه، ووصف الله حالهم فيه بقوله (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم وليا مرشداً. وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعباً) لقد حفظهم الله عز وجل وحماهم بأمور عدة:
ألاول: أن جاءوا إلى هذا الكهف فالشمس إذا طلعت تزاور عنهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال فاختير لهم هذا الموطن وهذا الكهف، وقد قال الحافظ ابن كثير عنه "فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال, لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه (ذات اليمين) أي يتقلص الفيء يمنة, كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة (تزاور) أي تميل, وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان, ولهذا قال: (وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه, وهو من ناحية المشرق, فدل على صحة ما قلناه, وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب, وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب, ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب, ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً, ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال, ولم تزل فيه إلى الغروب, فتعين ما ذكرناه, ولله الحمد".
الثاني: أنهم أصبحوا يقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تبلى أجسادهم.
الثالث: أنهم ألقي عليهم الرعب بحيث لو رآهم أحد لفر منهم ورعب.
إنه حفظ الله تبارك وتعالى لأوليائه، فقد حفظهم من حيث لا يحتسبون ومن حيث لا يشعرون، فأَمر الله فوق ما يفكر فيه البشر، لقد كان من المحتمل أن يناموا تحت شجرة، أو في كهف في جهة المشرق، أو في جهة المغرب، وما كان يدور في بال أحدهم أبداً أنهم سينامون هذه القرون والسنين الطويلة؛ فاختار الله لهم أمراً لم يدر في بالهم