بين النشيد الإسـلامي .. والأغنية الماجنة
في الأرضِ صوتٌ من غضبْ ** خطـواتُ فجــرٍ مُـقبلـهْ
نبضــاتُ قلـبٍ من لهـبْ ** لا تخشى حــدّ المقصــلهْ
في القدسِ ، في أرضِ النقـبْ ** أو فــي رام الله البـاسـلهْ
في كلِ شــبرٍ مغتصــبْ ** سنقودُ حربـــاً فاصلــهْ
سقـطَ القنـاعُ ولم تعـد ** تخــفى علينـا المسـألـــهْ
قال الراوي وقد جمعني به لقاء عابر في إحدى المناسبات العامة قال:
كان المنشد يترنم بهذه الأبيات المضيئة ، في جو حافل بالبهجة ، والحيوية والنشاط ، ضمن فعاليات إحدى المهرجانات لصالح القدس ، التي أقيمت منذ سنوات ، في إمارة الشارقة ، وعلى قدر ما كان الأداء رائعاً ومتميزاً ،
كانت المعاني القوية تضرب قاع القلب ، فتستثير فيه كوامن مدفونة ،
وتلهب فيه حماسة مشبوبة ،
وتطهره من ركام غبار ذل طويل ، مرغ الكرامة العربية في الحضيض ، ولا تملك وأنت تتابع هذا الحماس المتدفق من هذه الحناجر الشابة ، إلا أن تعقد مقارنة رغماً عنك ، بين هذا السمو هنا في الأداء والكلمات والمعنى والهدف والغاية والوسيلة ، وبين ما يقدمه بهائم الوسط الفني من إسفاف وهبوط ، ومداعبة للغرائز ، وتهييج للشهوة النائمة !
ولا يزال يطل علينا بين الوجبة والوجبة ، بهذه الأطباق المسمومة .. !
هنا في عالم النشيد : تجد صفاء الرؤية ، ووضوح الهدف ،
يقابله هناك مسخ مشوه .. وانتكاسة في الأخلاق ..
السمو الروحي يتجلى لك في معاني النشيد ، يقابله هناك التمرغ في وحل الشهوة
خطاب للعقل والقلب والضمير الحي في رحاب الأنشودة البسيطة ،
يقابله هناك خطاب موجه بكثافة إلى أحط غرائز الإنسان ، ليمسي بهيمة في ثياب إنسان !!
هنا كلمات غايتها النهوض بالأمة ، وتحريك الدم المتخثر ، وهز الضمير النائم ، والعمل من أجل إخراج الغافل من غفلته ، وتذكير بمعاني السماء ..
في مقابل تخدير وجدان الأمة ، واستهلاك أعصابها ، وتغييب مشاعرها ، وتسطيح فكرها ، والاستخفاف بقيمها ، وتهييج الحيوان الساكن هناك ..!
هذا النشيد وأمثاله يمكن أن يصنع إنساناً بإذن الله ..
وذلك الغناء المريض بالتأكيد ، سوف يمسخ إنساناً آخر ..!!
ولقد اعتمد علماء التربية قديماً قضية الإنشاد بين الوقت والوقت _ كملح الطعام _ لإثارة كوامن النفس ، وتحريك مجموعة من المعاني السامية ، والتذكير بها من أجل النهوض إليها ، والتنافس لتحصيلها ، ذلك لأن من الشعر حكمة ،
قالوا :
إنّ في الشعر خاصية عجيبة تسمو بالإنسان ، لاسيما إذا اجتمع مع قوة المعنى ، رشاقة اللفظ ، وجمال الأداء ، وحسن الصوت ، وحضور القلب ، فعندها يمكن أن تتحرك مشاعر هذا الإنسان بقوة ، إلى ما يراد تحريكه إليه ،
في دوائر الخير المختلفة ، ورب بيت يساق إلى قلب وعقل إنسان ،
فيقلبه من النقيض إلى النقيض في ساعة بإذن الله سبحانه..
فإذا به يشرع يجدف في غير الاتجاه ، الذي كان يسير فيه قبل ساعة .
وكلمة الصدق ، وحرارة الإخلاص ، وقوة الأداء ، وصحة المعاني ،
وسمو الغاية ، وروعة الوسيلة ، قد تفعل الأفاعيل ، في القلب ..
وفيها ومعها يجد الإنسان البديل الذي يبحث عنه للاستغناء عن هذا الهبوط الفني المريع ، الذي تفطر عليه الأمة وتتعشى به.!
غير أن الطريق إلى بديل فني متكامل لا يزال طويلاً ، وشاقاً فيما يبدو ،
ولكن السيول الهادرة أولها قطرات ، ورحلة الألف ميل ، بدايتها خطوة ،
والإقبال على القليل يكثّره ، وتشجيع الضعيف يقويه ، ومساندة الفقير ، قد تغنيه ، فلا مفر أمام كل مسلم إلا أن يختار هذه البدائل مهما كانت متواضعة ،
لعله بذلك يساهم في تعزيز الطريق ، وتكثير الخير ، والمساهمة في تقوية الصالح ، وعليه أن لا ينتظر الإعلام ، ليأخذ بيد هذه البدائل ، لأن إعلامنا العربي لا يزال في حالة تغييب أو تغريب .. ومن ثم فهو لن يلتفت إلى غير ذلك الهوس يجرعنا إياه صباح مساء ، ثم هو يزعم أنه يعمل لإيجاد المواطن الصالح !! شاهت الوجوه ..
قال الراوي :
لقد قدّمت تلك الأمسية بالنسبة لي حزمة ضوء باهر على الطريق ، فلقد كنت أحد الذين خدرهم الوسط الفني حتى النخاع ، ولما سمعت ليلتها ما سمعت ، هزتني تلك الأناشيد هزة قوية ، واسترخيت وأنا أتابع في ذهول هذه المعاني الراقية والقوية ، بهذا الأداء الرائع والمتميز ..
ومن هنا حرصت أن لا أغادر المكان ، إلا بعد شراء ذلك الشريط بعينه ،
وإلا بعد أن تبرعت بما تيسر لي مما في جيبي لصالح القدس ، فلقد وصلت رسالة المهرجان بقوة إلى قلبي ونفسي ، فما كان لي أن أغادر دون أن أقدم شيئا متواضعاً ، وأنا أقول : معذرة فهذا جهد المقل .! ..
وفي طريق عودتي ألقمت جهاز التسجيل الشريط وأعدته مراراً ، وأنا في حالة انتشاء وفرح روحي لا يوصف ..
بل أنني شرعت أترنم مع المنشدين في حرارة وحيوية ، بعد أن حفظت اللازمة في مطلع القصيدة ، بل وشعرت أن السيارة نفسها ، هيجها هذا الحداء فكأنما كانت تسير على الهواء ..! وأخذت أردد مع الكورال وأنا أرفع صوتي :
في الأرض صوت من غضب ** خطـوات فجـر مقبله
نبضـات قلب من لهـب ** لا تخشى حـد المقصله .. الخ
( كتبت هذه المقالة قبل ظهور الفضائيات التي تعتني بالإنشاد الإسلامي ..)
كتبها بو عبدالرحمن