"يوم عرفة"
كنت أنتظر هذا اليوم بشَوْق، مِن كثرة ما سمعتُ عنه وعن فضله؛ لكنني بنفس الوقت تَهَيَّبْتُ منه، خشيت ألا أشعر بتلك اللذة التي منَّيتُ نفسي بها، خشيتُ أن تغلبني أمور الدنيا، فتسرق مني حظات طالما تقتُ إليها، خشيتُ أن لا تكفيني الساعاتُ هناك، أن يخذلني قلبي ونفسي..
الليلة التي سبقتها كنتُ أعاني صداعًا شديدًا، وأخشى أن يفسد عليَّ متعة الحج. كثيرات شاركْنَنِي تلك اللحظات بقلوبهنَّ، بدعواتهنَّ لِي أن يُخَفِّفَ الله صداعي، ويبلغَنِي يوم عرفة..
أخوات الخيمة لم يقصرْن بالاهتمام، حتى مَن لَمْ أعرفْ منهنَّ قبلُ.
الزنجبيل الدافئ، والليمون، وأقراص الدواء، كانت تأتيني مِن كل صَوْب، الأكف الصادقة التي ترتفع بالدعاء كانت تجعلني أشعر بشعور الجسد الواحد حقيقة.
جوَّالِي الذي كانت تَصِلُني به رسائل الاطمئنان، وسؤال الأقارب والصديقات ودعواتهم، وما يوصونني به من دعوات.
أيْقَظُونا فجرًا، لم نستطِعِ النومَ ليلتها جيدًا، واستيقظنا بوقت باكرٍ جدًّا؛ لنستعد وننطلقَ بعد الشروق.
تجمعنا وانطلقنا بالسيارات بعد أن صَلَّيْنَا الضُّحَى بالخيام. وصلنا عرفة العاشرة صباحًا تقريبًا، أختي كانت تطمَئِنُّ علينا، فقالت لي: هنيئًا لكم أن وصلْتُم بهذا الوقت، فحينما حجَجْتُ لم نستطعِ الوصول قبل الثانية ظهرًا.
كانت معنا بأوراقها ومَراجعها وحِرْصها على السُّنن، فعَينَّاها أميرةً على مجموعتنا الصغيرة، وأخبَرَتْنا أنه يُسَنُّ الدعاء خارجَ الخِيام، وأنَّ السُّنة بعد الزوال، ويكثر من الدعاء.
وأمسكْتُ دِفترًا صغيرًا، ضمنت به الدعوات التي أُوصِيتُ بها، وكانت صفحات كثيرةً، تبسَّمت وقتها، وقالت لي بعجل: أخشى أن أنسى أحدًا دون أن أنْتَبه.
هناك افْترشْتُ الأرض بجوار الخيمة، جلسْتُ على تراب الأرض، وتظلني السماء والشمس، وبدأتُ أسْتعيدُ كلَّ مَن أوصاني بدعاء، بدأتُ أدعو بلساني، كنتُ أسمع ضجيج الناس من حولي؛ دعاء جماعي يصدح، مجموعة يتحدثونَ، محاضرة عن فضل يوم عرفة، كنتُ أسمع وأشتت نفسي، لديَّ الكثير الذي أتوق لأن أدعوه، أحتاج خلوة بدعائي لأشعر بخشوع.
تداخَلَتْ أصواتُهم، ما عُدْتُ أُمَيّز بينها! ضجيج فقط كلمات مُتداخِلة بلا معنى، وصلْتُ بدعواتي لمن فارقونا ورحلوا، فاضَتْ عبراتي، وأنا أتخيل نفسي فيما صاروا إليه!
حمدت الله أن بلغني عرفات، أن أَتَاحَ لنا فرصة؛ نُكَفِّر بها عن خطايانا.
كم ظَلَمْنا أنفسنا! كم قصرنا! كم زهدنا بزوادة نحتاجها بيوم لا ينفع به إلا مَن أتى الله بقلب سليم!
رذاذ مِن الماء كان يُبلّل وجهي، ما عدت أدري أمِن عيني وعبراتي، أم من السماء؟ أم أنهم يرشّون ماء؛ يخففون به وهج شمس الظهيرة؟
لسْتُ أدري أيّهم بلَّلَ وجهي؟ أمِ اختلطت كلُّها معًا؟ لكنها جعلتني أشعر برحمة الله، وكيف يَسَّرَ لنا الحج، وسَهَّل سُبُلَه.
سبق لِي أن قُمْتُ بعمرة عن أشخاص أحببتهم ورحلوا؛ لكنني بهذا الحج كنتُ أشعر بشعور آخر، يختلف كثيرًا عن كل مشاعري التي سبقَتْ، شعور جعلني أشْعُر بالموت أقرب، وجعلني أشعر أنَّ الدنيا لا تدوم.
حينما تَشْعُرُ بِمرارة الظُّلْم مِنْ إِنْسَان، حينما تشعر بأن هناك من ترغب بأن تدعوَ عليه؛ ليكف أذاه عنك، أو عن مَن تحب من الناس. يأتيك شعورٌ قويٌّ يدفعك لرفع أكفكَ نحو السماء؛ لتدعوَ بصِدْق عن كُلّ ما تعجِز عنه بضعفكَ البشري؛ لتلجأ لِمَن تثق به وبقوته وبعدله.
هناك بهذا الموقف كنتُ قد خططت لدعاء كهذا؛ لكنني حينما شعرت بضآلة الدنيا وسخافتها، تضاءلَتْ مشاعري أيضًا، وصفا قَلْبِي بصِدْق، شعرتُ ألاَّ أحدَ بالدنيا يستحقُّ أن أحْمِلَ له مشاعِرَ سلبيةً، تؤذيني قبل أن تؤذِيَه!
وتذكَّرْتُ رحمةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مُشْرِكي قريش، حينما سأله جبريل: "أَأُطْبِقُ عليهِمُ الأخْشَبَيْن؟" فقال بما معناه: ((لا، لعل الله يُخرج مِن أصلابِهم مَن يوحده))، ودعا لهم بالهداية.
وحدهم اليهود والمنافقين، وكل مَن أراد بالإسلام سوءًا، لم أتمالك نفسي مِن الدعوات عليهم، وأنا أتذكَّرُ بُيوتًا هُدِّمَتْ، ومساجدَ حُرِّقَتْ، وأسْرَى يَئِنُّون، سُلِبُوا حق الحياة، وأنا أتذكَّرُ شعاراتٍ رُفِعَت، وأفواهًا كُمِّمَت، وأيادي قُطِّعَتْ!
شريط حياتي كان يَمُرُّ أمامي يومها، وأنا أعد أيامي التي مَضَتْ، وأسترجع ما بقي لي منها، بهذا الشريط مَرَّ عليَّ كلُّ مَن صادَفْتُ وأحبَبْتُ، كلُّ ما رأيتُ واكتسبْتُ (منه) مِن خبرات!
دعَوْتُ الله أن يلهمنا الصوابَ، وأن يقِيَنا شرَّ أنفسِنا، وأن يَحفظَنا ويبعدَنا عن مداخل الشيطان.
كانت نفسي تُطمئنني بأنك بخير، ففعلت وفعلت....
وتعود لي ذِكْرَى قصص الصحابة التي قرأتها، وعِشْتُ بين صفحاتها، وأنا أتصوَّر لحية عثمان - رضي الله عنه - المُبَلَّلَة بالدموع كلما تذكَّر عذاب القبر!
وأنا أرى قلق عُمر وخشيته أن يكون من المُنافقينَ، وسؤاله للصحابي الذي ائتمنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أسماء المُنافقينَ: "هل أنا منهم؟"
لله درُّك يا عمر، تَخْشَى النِّفاق وقد بشَّرَكَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة!
يقْشَعِرُّ بدني، وأنا أذكر استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه، وإكثاره منه!
بكاء أبي بكر الصديق الذي خَشِيَ المشركون أن يُفْتَنَ به نساؤهم وأطفالهم عن دينهم!
كانوا رجالاً بحق، حتَّى دموعهم تشعرُني بالقوة، بقوة إيمانهم، وقوة حُبِّهِم لله.
قوة لا يقابلها إلا شعوري بالخَجَل مِن حالنا، ساعات مَرَّتْ لَمْ أشعر إلا بصوت أذان العصر يرتفع وينادونني؛ لننضمَّ للصلاة وبعدها للغداء. كنت كمَنِ اقتلعوه؛ ليعود للأرض ثانية!
وأسرعنا بالغداء، فما هي إلا سُوَيعات وينتهي الوقت، وينتَهِي هذا اليومُ الذي طالما تُقْنا إليه.
ولسُنَّة أرادها الله بالكون، لابد لكل شيء بالدنيا من نِهايةٍ، وقد مَرَّ يومُ عرفة كما مَرَّتْ قبله أيامٌ كثيرة! لكنَّه لم يكُنْ كأيِّ يومٍ، ولَنْ يَمُرَّ أثرُه الذي تَرَكَهُ بِنُفُوسِنَا حتمًا ما دُمْنا