الفصام النكد ..!
--------------
قرأتُ يوماً لأحد الأدباء في جريدةٍ سيارة ما يلي :
عندي فيلم عن ( بناء الخلية ) لا أمل عرضه والتوقف عنده ، لأنني أرى الفرجة على هذا الفيلم صلاة وعبادة ، وركوعاً وسجوداً لله ..
إن الذي يجري داخل خلية واحدة هو الإعجاز نفسه ..
تتجلى لك العظمة والروعة ،ولا تملك إلا أن تقول ألف مرة : سبحان الله العظيم ..
..
وهكذا يمضي في عرض مقاله بروح إيمانية صرفة ، تكاد تجعلك تجزم أنك أمام عارف بالله ، متعلق القلب به ، دائم الذكر له ، حريص على التعريف بالله وشد الناس إليه ، لا يكاد يلتفت إلى مشهد من مشاهد الكون إلا ويرى يد الله سبحانه وإبداعه وحكمته ، ومن ثم فهو لا يتصور إلا أن يكون في حالة ذكر قلبي نقي ، تجعله شفافاً رقيقاً كثير الابتهال ، شديد الحب لله عز وجل ..
وبالمناسبة ليس هذا هو المقال الوحيد ، الذي جرى فيه الكاتب على هذا النحو الراقي من المعاني ، المتميز في العرض .. بل لقد أعاد مثل هذه المعاني وذلك العرض أكثر من مرة ، وفي أكثر من مناسبة ..
إلى هنا والمسألة لا غبار عليها ، بل هي مطلوبة..
تتمنى معها أن يكون هذا هو النهج الأساس الذي يسلكه أدباؤنا وكتبانا في جرائدنا السيارة التي تدخل كل بيت ، لعل كلمة من هنا أو هنا ، أو مقال مثل هذا ، يكون سببا في عودة الناس إلى ربهم
بل قناعاتي أن هذه المعاني هي التي يحتاجها الناس في هذا العصر المتعب ، أكثر مما يحتاجون إلى طعامهم وشرابهم ..!
نعم ذاك هو المطلوب والمنتظر ،
وإذن فماذا يُعاب على الرجل وقد كتب في هذا وأجاد وأبدع ..!؟
الحق أن ما يعاب على هذا وأمثاله أمر في غاية العجب ، أمر يجعلك تضرب كفاً بكف ، وتقلب أخماساً في أسداس ..!
إنك لا تلبث إلا اياما حتى تراه قد قلب لك ظهر المجن !
وإذا به يعرض لك بضاعة مغشوشة ، بل مسمومة ، تقرأ فلا تكاد تصدق أن هذا الكلام هو لذلك الرجل الصافي الإيمان ..!
تجده في الصورة الثانية شاباً أرعنا ، استحكمت فيه الشهوة حتى نخاعه ، لا يحدثك إلا عن مغامرة من مغامراته في بعض البلاد المتفلتة ، وعن صديقاته اللواتي تعرف عليهن هناك ، وما جرى له مع بعضهن من مواقف مثيرة ..وأين سهر ، وكيف قضى سهرته تلك ، وماذا رأى .. في عرض بديع يشدك ، ويزين لك السير على ذات الدرب !!
ولقد رجعت إلى رأس المقال لأتثبت : هل حقاً هو نفس الكاتب الذي قرأت له من قبل تلك الروعة من روائع الإيمان ..فأجده نفس الاسم ، وفي نفس الزاوية !!
ولقد تكرر هذا الأمر أكثر من مرة ..
الحق أن هذا لون من التلوث الفكري ، بل هو أخطر ألوان التلوث على الإطلاق .
إن هذا يحرص على أن يضع شيئا من العسل المصفى ، في كأس السم الذي يقدمه للناس وهو يتبسم ..!
تقرأ له مقالاً يحرك فيك عاطفة إيمانية رائعة ، ثم تقرأ له مقالاً يرميك مباشرة في حضن الشيطان لترضع من أثدائه ..!!
ولقد سألت نفسي مراراً :
هل يدرك هذا المخلوق ماذا يصنع ، أم أنه من الذين لا يزالون يرددون في بلاهة : ساعة لربك وساعة لقلبك ..!
وترجمة هذا في حياتهم : ساعة لربك ، وثلاثاً وعشرين ساعة لشيطانك ..!!
مع أن الله سبحانه وتعالى يقول :
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ..
ويقول سبحانه :
( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ..
فالحياة كلها ، في كل دائرة من دوائرها ، وفي كل ساعة من ساعاتها تصبح في حس المؤمن الحق عبادة خالصة لله سبحانه ، حتى يلقاه وهو راضٍ عنه ..
حتى وهو يضحك ويتبسم ، ويمازح ويلهو ..! والأحاديث في ذلك كثيرة ..
لكن هؤلاء المصابين بحالة الفصام النكد لا يستوعبون هذه الحقيقة ، ذلك لأن عقولهم تشكلت على أن العبادة محصورة بين حيطان محددة ، فإذا خرجت منها فقد انخلعت من الدين ، ولك أن تفعل ما يحلو لك ، حتى يحين موعد الصلاة الأخرى ...!!
يذكرني هذا الكاتب وأمثاله ، ببعض الممثلين المفسدين في الأرض ، حيث تجده يظهر في دور بعض الصحابة أو التابعين ، فإذا هو روحاني المشاعر ، ملتهب العاطفة الإيمانية ، يشدك إلى الله بسمته وكلامه ومواقفه ونبرة صوته ...!
ثم لا تلبث أن تراه بشحمه ولحمه ودمه ، على قناة أخرى في نفس الساعة ، وهو في أحضان فاجرة يترنح في حالة سكر شديد ، ويفيض على لسانه سيل من كلمات الرذيلة ، والخروج عن قيم المساء والأرض أيضا !
ولك أن تتصور أي انطباع سيء يتولد في قلب مراهق ليست لديه ضوابط ولا موازين لما يراه ويتابعه ...!؟
هؤلاء لم يعرفوا بعدُ ، ألف باء هذا الدين العظيم ، الذي ينتسبون إليه ، ويتحدثون عنه بحماسة بين الوقت والوقت ..
ثم لا يلبثون إلا قليلا حتى تراهم يعملون على هدمه من جذوره ، بنشر الغسيل القذر على عيون الناس ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ...!!
أحسب أن هؤلاء أحد أسباب الواقع العربي المخذول ، والحياة التي تتكفأ كل حين ، لا تستقيم حتى تكبو ..!
بل أحسبهم من أهم أسباب صور الخذلان ، التي تتمشى في أرجاء هذه الأمة ، والتي أثمرت مهازل شتى ، ومآسي تتوالد كل يوم ..!
ولولا أمل في الله ، وقوة رجاء ، وثقة بأن العاقبة للمتقين كما قرر ربنا ، لأصابنا يأس من صلاح أحوال هذه الأمة ، لكن وعد الله ورسوله لا يتخلف ، والخير يبقى في هذه الأمة كامن فيها كمون الذهب في باطن الأرض ..
وهؤلاء إن لم يراجعوا أنفسهم ، ويصححوا أوضاعهم ، ويصطلحوا مع الله ، ويعيشوا له .. فسوف يكنسهم التاريخ ، وستتابعهم لعنات الأمة صباح مساء إلى أن تقوم الساعة ..! وصدق الله :
(..فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء ، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ..)
كتبها بو عبدالرحمن