والسؤال هنا كيف يتم صناعة إرادة النجاح الذاتية الفردية؟
يتم صناعة الإرادة الذاتية والدافع للنجاح من خلال وضع هدف في الحياة يراد إنجازه، وكلما كان هذا الهدف مرتبطًا بالنجاح الدنيوي والأخروي للفرد كان ذلك أدعى للاستمرار للوصول إليه، ومن ثم وضع الآلية والخطوات لتحقيق ذلك الهدف، ويتوافق مع ذلك سؤال المختصين وأهل الخبرة في المجال الذي حدده الشخص لحياته، وقراءة الكتب، وحضور الدورات والملتقيات في ذلك التخصص، مع التوكل على الله عز وجل والدعاء واتخاذ الأسباب لتحقيق الهدف.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن كثير من الدوافع التي تحرك النفس البشرية في اتخاذ هذا الاتجاه أو ذاك، وهي كثيرة ومنتشرة ومبثوثة في كتاب الله الكريم لمن قرأ وتدبر، ومن ذلك دافع الحفاظ على الابن لدى أم موسى عليه السلام الذي قصه الله عز وجل بقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه: 37-40]، ويبرز لنا كذلك دافعين أو إرادتين في قصة ابني آدم هابيل وقابيل، أحدهما دافع الحقد والحسد لدى قابيل، وهو بالمناسبة من دوافع الفشل، ويمكن أن نقول: إنه يمثل إرادة يمكن أن يختارها الفرد ليخفق وهي إرادة الحسد والحقد (فإرادات الفشل تتنوع وتتعدد، كما أن إرادات النجاح تتنوع وتتعدد أيضاً)، والدافع الآخر هو دافع الخوف من الله عز وجل وابتغاء ما عنده لدى هابيل، وهذا الدافع يمثل إرادة ودافعًا للنجاح الدنيوي والأخروي، وأورد الله عز وجل هذا المعنى في قصة ابني آدم حيث قال سبحانه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة 27-31]، لقد كان هناك إرادة للنجاح الدنيوي والأخروي لدى هابيل حين قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ}.
وما ينطبق على الأفراد في معاني إرادة الفشل وإرادة النجاح ينطبق كذلك على المنظمات؛ سواء كانت تلك المنظمات شركات، أو مؤسسات، أو منظمات دولية، أو جمعيات تطوعية، أو غيرها من أشكال المنظمات، وينطبق كذلك على الدول. فقد وضع الله عز وجل سننا للحياة البشرية، وهذه السنن يجب أن يتبصرها من أراد النجاح سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الجماعة والدولة، وبمقدار مخالفة هذه السنن أو الابتعاد عنها يكون مقدار الخلل في المجتمع والدولة. ولقد دلنا القرآن الكريم على كثير من هذه المعاني؛ ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. ولو نظرنا في تاريخنا في الأندلس مثلا لوجدنا أن المسلمين دخلوا الأندلس وهم اثنا عشر ألف رجل فقط، وخرجوا منها وهم ثلاثة ملايين من بين رجل وامراة وشيخ وطفل، مليون منهم هربوا إلى المغرب العربي ومليون غرقوا في البحر وهم في حال الهرب، والمليون المتبقي ظل في الأندلس يعاني محاكم التفتيش التي نصبها النصارى للمسلمين ليذيقوهم ألوان من العذاب لم تسمع بها البشرية قط، فهم عندما دخلوها كان يرفعون شعار لا إله الله يريدون نشر كلمة التوحيد في الأرض وهذه إرادة نجاح، وعندما خرجوا منها كانوا قبل خروجهم في تصارع وتناحر، وموالاة للنصارى، ودفع الإتاوات والجزية لهم مع انتشار البذخ والتفاخر في بناء القصور، وفشو المنكرات في المجتمع، وعدم إعطاء العدو حقه من الأهبة والاستعداد، وجميع هذه المظاهر تمثل إرادة للفشل.
وكما يدفع الفرد المخفق الضريبة النفسية والمعنوية المتمثلة في المعاناة المستمرة، فإن المجتمع المخفق يدفع ضريبة أيضاً، ولكن هنا يدفع المجتمع الضريبة ككل، وليس الواحد دون الآخر، وهو يدفعها مجبراً دون أي خيار له؛ لأنه اختار إرادة الفشل، ومن يختار إرادة الفشل يصبح بلا اختيار إلى أن يختار إرادة النجاح! وتتمثل هذه الضريبة التي يدفعها المجتمع في فشو الفقر، والبطالة، وغلاء الأسعار، وقلة المال في أيدي الناس، والانحراف، وانتشار المخدرات، وانتشار الجهل، وانتشار الشذوذ، والضعف داخل الدولة، وتولي العدو على ذلك المجتمع سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وغير ذلك من التكاليف التي يدفعها المجتمع ككل وهو مرغم؛ لأن المجتمع اختار إرادة الفشل سواء كان يعي ذلك أو لا يعيه، وهذا المجتمع المخفق من سماته تغليب ثقافة المادة والمنفعة، وعدم إعطاء العلم قيمته الحقيقية، والاهتمام بالمظاهر والشكليات على حساب الجوهر، والاهتمام بالأشخاص أكثر من الاهتمام بالأفكار، وعدم إعطاء أي قيمة للوقت أو إعطاؤه على أحسن الأحوال قيمة دنيا لا ترقى للمعنى الحقيقي لقيمة الوقت الذي يمثل الحياة بجميع مظاهرها وصورها، وعلى العكس من ذلك تماماً تكون نتائج إرادة النجاح للمجتمع واتخاذ الخطوات في سبيلها حيث تظهر سمات المجتمع الناجح في علو للقيم الثقافية، والروحية، والمعنوية، والنفسية في المجتمع وما يواكبها من تطور ورقي في مستوى التعليم، والحياة الاقتصادية، والتنموية الراقية فيه. وقد قال تعالى في معانٍ مقاربة لهذه المعاني: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
وعند الحديث عن الإرادة في التاريخ المعاصر نرى المثال واضحاً من خلال إرادة الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، فقد خرجت ألمانيا من الحرب وقد دمرت بنيتها التحتية تماماً، ولكن الإرادة الألمانية أبت إلا البناء وعدم الخضوع لحالة إرادة الفشل التي أراد الحلفاء إيقاعهم بها، وكلنا يعرف أن الهدف الرئيس من الحرب ليس التدمير والقتل، ولكن الهدف الرئيس هو قتل إرادة المقاومة وإيقاع العدو تحت إرادة الفشل والخضوع والاستسلام، ولكن النفسية الألمانية والقوة النفسية والمعنوية التي يحملها الألمان أعادت ألمانيا أفضل مما كانت، وذلك بعد عشر سنوات فقط من انتهاء الحرب: إنها بكل يسر الإرادة: إرادة الفشل أو إرادة النجاح.
إنها الإرادة التي تفرض اتخاذ الأسباب والسير حسب سنن الله في الأرض بالنسبة للأفراد والمجتمعات والمنظمات والدول، وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، ولهذا وذاك كانت الإرادة ولا تزال وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وبعد تحقيق أركان الإسلام ومقتضياته من أهم محركات الفشل، وهي كذلك من أهم محركات النجاح والنمو والتنمية المستمرة للأفراد والمجتمعات، ويتوقف النجاح والفشل على أي الإرادتين يقع الاختيار؟
إضاءة قبل الرحيل:
من باب نسبة الفضل لأهله كان الفضل الرئيس لبعض أفكار هذا المقال لكل من:
1- الدكتور عبد الحميد محمد الهاشمي وكتابه الجميل الصغير الحجم والعظيم النفع "لمحات نفسية من القرآن الكريم".
2- الكاتبة الأمريكية دوروثي براند وكتابها النادر والرائع "استيقظ وعش".