عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 3  ]
قديم 2008-07-13, 1:32 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
الحقوق الأدبية للمسنين:
والإسلام يوجب علينا أن نرعى حقوق المسنين المادية وحقوقهم الأدبية؛ فالإنسان ليس مجردَ حيوان يأكل ويشرب، الإنسان أكبر من ذلك، بعض الناس يظن أن أباه يحتاج إلى الأكل والشرب فقط، فيضعه في بيت للمسنين أو العَجَزَة - كما يسمونه، وهذه تسمية خاطئة، فلا يجوز أن نسميهم العجزة، إذ يمكن أن نسميهم (كبار السن)، أو (الشيوخ)، أو نحو ذلك - فإذا وضعه في هذه الدُّور، شعر أنه أدَّى ما عليه، وهذا خطأ كبير؛ فالإنسان له أشواق وطموحات، وحقوق أدبية، ومن حق الأب والجد أن يعيش مع أولاده وأحفاده، ومن حق الأحفاد أن يستمعوا إلى حكايات جدهم، وأن يتعلَّموا من تجاربه، من حقهم أن يؤنسهم، ومن حقه أن يؤنسوه، أما أن ترميه في المصحة، أو في دار العجزة، وتقول: لقد أديت ما عليَّ؛ فهذا لا يعرفه الإسلام، يقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء : 23-24].
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ}؛ لقد أوصى القرآنُ بالوالدين بصفة عامة، وخصَّ هذه الحالة بالذكر، حالة بلوغ الكبر، كبر السن والشيخوخة، فقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ}، (عندك)، وليس (في المصحة)!! عندك في بيتك، في دارك، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}، هذان نهيان، الأُفُّ: مجرد التأفف والتضجر، سواء أكان بالكلام؛ كأن يقول: "أُف"، أو بالنَّفَس؛ مجرد النفخة حرام!!
قال بعض السلف: لو كان هناك شيء أقل من (أُفٍّ) لحرمه الله.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}. نهى الله - تعالى - في هذه الآية عن أمرين، وأمر - سبحانه - بثلاثة أمور: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
القول الكريم: هو القول الليِّن، القول الطيب، القول الحسن، كأن يقول له: (يا أبتِ) كما رأينا سيدنا إبراهيم - عليه السلام - يقول لأبيه، وهو - أي: والد إبراهيم - مشركٌ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم : 42]، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } [مريم : 45]، وهكذا القول الكريم، {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..}.
والإنسان المسلم يكسب الجنة ببِرِّ والديه؛ فالله تعالى قال لرسوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {الشعراء : 215]، اخفض جناحك...، ولكن هنا قال: {جَنَاحَ الذُّلِّ}، ليس مجرد خفض جناح، ولكنه جناح الذل، ولم يمدح الله الذل في القرآن إلا في موضعين؛ في هذا الموضع، وفي موضع آخر؛ حينما قال {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة : 54]، ذلُّ الإنسان لأبويه، وذلُّ الإنسان لأخيه المؤمن، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، خفضٌ من الرحمة، ليس من هوان ولا من ضعف!!.
تذلَّلْ لهما، تحبَّب إليهما بهذا، {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}، ادعُ لهما أن يرحمهما الله في حياتهما وفي موتهما.
كان بعض السلف إذا أصبح يقول لأبيه: "يا أبتِ، يرحمك الله كما ربيتني صغيراً". يقولها منفذاً تعاليم القرآن، فيقول له أبوه: "يا بني، وأنت يرحمك الله كما برَرتَني كبيراً". انظر إلى هذه العلاقة الطيبة الحسنة!!.
{وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}؛ فعلى الإنسان أن يرعى هذه العلاقة؛ إذ يستطيع بها أن يكسب المغفرة ويربح الجنة، إذا أحسن إلى أبويه - أو أحدهما - في حالة الكبر.
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((رَغِمَ أنفُه. ثم: رَغِمَ أنفُه. ثم: رَغِمَ أنفُه. قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبواه عنده الكِبَر - أحدُهما أو كلاهما - فلم يُدخلاه الجنة)). لم يصل إلى الجنة من خيبته!! ضيَّع الجنة وكان يمكنه أن يكسبها ببرِّ والدَيه!! في هذه الحالة: رَغِمَ أنفُه، ثم: رغم أنفه، ثم: رغم أنفه.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ } ... روى البزَّار: ((أن رجلاً كان يطوف بالبيت وهو حامل أمه، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نظر إليه: يا رسول، هل أديتُ حقَّها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة))!! زفرة من زفرات الطَّلْق والوَضْع والآلام، لم تؤدِّ بحملك هذا لها حقَّ زفرةٍ واحدة!!.
وجاء رجل إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بلغ بِرِّي بأمي أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطيّاً؛ أحملها وأذهب بها إلى المرحاض كما كانت تفعل بي في الصِّغَر، فأنا أؤدي إليها ما كانت تؤدي إليَّ؛ هل وفَّيْتُ حقَّها؟ فقال عمر: لا، إنها كانت تفعل بك ذلك وتتمنى لك عمراً طويلاً، وأنت تفعل بها ذلك وأنت تترقَّب موتها غداً أو بعد غد!! فرقٌ بين الأمرين.

الرعاية التي يرضاها الإسلام:
فالواجب على الإنسان أن يرعى أبويه، ليس بمجرَّد رميهما في المصحة، وإن كانت المصحات لابد منها؛ لأن من الناس من لا عائلة له، وقد يكون الابنُ فقيراً لا يستطيع أن يُسكنَ أباه في بيته؛ ذي الحجرتين، فماذا يفعل؟ هنا يمكن أن يذهب المُسِنُّ إلى المصحة، ولكنْ لابد أن يزور بيت أولاده بين الحين والحين، ولابد أن يزوروه، وهناك - في بعض البلاد - أندية تقام للمسنين، يقضون نهارهم معاً في هذه الأندية، ثم يعودون إلى بيوت ذويهم في المساء، والحاجة إلى مثل هذه الدور في بلادنا ملحَّةٌ - خاصةً في عصرنا؛ إذ تعمل المرأة، والأولاد في المدارس، والابن يعمل، ويبقى الرجل المُسِنُّ وحده، وهذه حياة موحشة؛ فأقاموا لذلك أندية المسنين. لا بأس أن نقيم هذه الدور في بلادنا، وفي مجتمعاتنا، فالإسلام لا يمنع من إقامة مثلها؛ لتقوم بحق هؤلاء الشيوخ الكبار، وبحق المُسِنَّات من النساء أيضاً.
هذا واجبنا، وواجب المجتمع أيضاً أن يعين في ذلك، واجب المجتمع أن يوقِّر الكبار، وأن يؤدي إليهم حقهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّر كبيرنا، ويعرف شرف عالمنا".

فرحمة الصغير، وتوقير الكبير، واحترام العالِم، قيم إسلامية أصيلة، لا يجوز أن تُفقد هذه القيم، ولا أن نستبدلها بقيم أخرى غريبة عن هذه المجتمعات، يرى الرجلُ الشيخَ الكبير فلا يعينه، يركب الحافلة وهو يحتاج إلى أن يجلس، فيظل الشاب جالساً ويترك هذا الشيخ!! هذه قيم غريبة عن هذا المجتمع، المجتمع يوقر الكبير، وكما قال الحديث الذي رواه الترمذي: ((ما أكرم شابٌّ شيخاً إلا قيَّض الله له من يكرمه عند سنِّه". إذا أكرمت شيخاً وأنت شابٌّ، جزاك الله من جنس عملك؛ فهيأ لك - وأنت شيخ - من يكرمك وأنت في حاجة إلى الإكرام، هذه الأمور كما يقول الناس (سلف)؛ البر سلف، والعقوق سلف، برُّوا آباءكم، تبرُّكم أبناءكم.

ويحذر الدكتور القرضاوي من أن تنتقل إلينا العدوى من الغربيين، الذين تفكَّكت أسرهم؛ فلا يكاد الابن يعرف أباه أو أمه بمجرد أن يبلغ الحُلُم، إذا بلغ الشاب ستة عشر عاماً أصبح حبله على غاربه، بحث له عن صديقة، وبحثت الفتاة لنفسها عن صديق، ولا يكاد أحدهما يعرف أمه أو أباه، ولذلك احتاجوا إلى أن يحتفلوا بعيدٍ للأم، وعيدٍ للأب، يومٌ في العام يتذكر الواحد منهم فيه أن له أباً أو أماً!! وماذا يفعل؟ لعله يرسل إليه بهدية، أو يرسل إلى أمه بزجاجة عطر أو نحو ذلك!! هذه هي حياتهم!! ويعيش أحدهم في شيخوخة موحشة، الشيخوخة هناك موحشة أشد الإيحاش؛ لأن الإنسان يعيش وحده، لا يتمتع فيها بابن ولا بنت، ولا حفيد ولا حفيدة، والإسلام لا يرضى بهذه الحياة، لا يرضى للإنسان إلا أن يحيا كريماً عزيزاً موقَّراً.
==========