تتابعت أصوات الأغنام يخرج بها الفتيات الصغيرات..ويقصدن بها رؤوس الجبال..تأكل من رزق الله، بينما كانت الشمس للتو قد بزغت على تلك الروابي، وروائح الريحان وأشجار السفرجل والمشمش والرمان تعبق في الأرجاء..
لم تنزل جميلة للبساتين اليوم..فقد دهمها هذا الهم الذي لم تحسب له حساباً..
وبقيت ترقب حركة الناس الدؤوبة رجالا ونساء وأطفالا في هذا العالم المترامي الأطراف أمامها..
النساء أشرعن النوافذ والأبواب، وقد أشعلن الحطب في وقت سابق مع أذان الفجر ..لتجهيز طعام الفطور..
أصوات خرير المياه ، تنبعث من السواقي، مع أصوات العصافير تسبح لخالقها..
بينما تتابع الرجال ينتشرون وسط تلك البساتين..منهم من أقبل على أشجار العنب..ومنهم من أقبل على أشجار الورد..ومنهم من التصق بالأرض..يخط خطوطا لزرع جديد ..
كانت الحياة أمامها تموج..بينما قلبها متوقف عن كل شيء..إلا التفكير في مخرج..
هل تذهب لوالد زوجها..لقد كبر سنه ، ورق عظمه، وأصبح مغلوبا على أمره أمام سطوة زوجته وبناتها..
أم تذهب لأبناء عمها الذين يسكنون قرية أخرى..إن هذا لأصعب عليها من الموت أن تمد يدها بعد حياة كريمة مع زوج كريم..
ماذا تفعل؟
إن هذا أمر لايقوم له إلا الرجال الأقوياء..هم من ينتصرون للضعفاء والذين لايجدون حيلة..
جميلة امرأة عاقلة..وهي تجلس مع نفسها ترجو الله أن يهبها الحكمة في التصرف أمام هذا الموقف..
وماهي إلا سويعات وييتفتق ذهنها عن رأي ترجو أن يكون صوابا ورشدا..
باتت ليلتها تلك وقلبها يغلي كغلي المرجل..
لن أكون إلا نعم الزوجة لذلك الرجل الذي استأمنني على هذا البيت من بعده..ولن أكون لأبنائه إلا نعم الأم..
لم تنتظر حتى تطلع الشمس، بل ماكادت تسمع صياح الديكة حتى أغلقت بابها و طلبت من جارتها المخلصة الاهتمام بأطفالها..
كانت أنفاسها تلاحق سبحات الفجر ، وهي تصعد وتهبط في تلك التلال واحدا تلو الآخر..وقد أدمت الصخور واالأشواك قدميها من طول المسير..
وأخيرا تبدت لها دار الشيخ علي..الشيخ الذي يقصده الناس للفصل بين المنازعات..
كانت داراً كبيرة..الكل يعرفها..ويعرف صاحبها المشهود له بالكرم والوقوف مع الضعفاء والمظلومين..
ماكادت تحط رحالها ببابه..حتى وجدت العيون تتفحصها..
فقد كانت الدار مملوءة بالرجال من كبارووجهاء الناس..
ولم يعهد أحد أن تحضر امرأة لهذا المجلس..
لكنها جمعت عليها ملابسها وقد أثر بها طول السير..
وألقت السلام على الحاضرين..ثم جلست بطرف المجلس بجانب الباب..
أيقن الشيخ أنه ماأخرج هذه الفتاة من بيتها إلا أمر عظيم..فبادرها قائلا: ماأمرك يابنت؟
فقصت عليه القصة..بصوت شجاع متألم ثم أعقبت :
لاأريد حسنة..اريد شيئا لهؤلاء الأطفال من خير جدهم، وخير أبيهم الذي أفنى عمره رعاية لأملاك الجد..
ابشري بالخير..هكذا طمأنها الشيخ علي..
ثم طلب من غلمانه أن يقدموا لها القهوة..فهبت واقفة:
لاأريد شيئا.
ثم عادت أدراجها تنتظر الفرج من الله.
يومان..ويتسامع الناس..الشيخ علي يجتمع بالجد، وشقيقته الوحيدة التي تسكن قرية أخرى..
ثم يعرض عليهم امرا..فيوافقون على الفور..
ولاتغرب شمس اليوم التالي..إلا وكاتب المحكمة يجلس متوسطا الشيخ علي والجد..
وعلى مقربة منهم جميلة..وعمة زوجها..
لقد تم وقف الأملاك ..فلا تباع ولاتشترى..
يتمتع بخيرها جميع العائلة..ثم بعد وفاة الجد تعود لبناته و لعبدالمحسن وذريته من بعده..
كان قرارا أثلج صدور الجميع..
وانتصر فيه البر والاحسان على الطمع والجشع..
وباتت قرى تلك الجبال تتسامع بالفتاة الشجاعة التي أبت إلا رفع الظلم عنها..ووقفت موقفا لايقفه إلا الأحرار من الناس..
وكأنها تصدق تلك المقولة:
(المرأة الحجازية مع زوجها امرأة عروب، ومع غيره كأشد الرجال)
4