وللحديث طريق ومتن آخر جاء فيه ذكر مسجد الأحزاب .
أخرجه أحمد في مسنده (3/393) ، عن حسين بن محمد المروزي ، وذكرها الواقدي في مغازيه (2/488) ، ومن طريقه ابن شبه في تاريخ المدينة (1/60) ، كلهم عن ابن أبي ذئب ، عن رجل من بني سلمة ، عن جابر بن عبد الله أن النبي (( أَتَى مَسْجِدَ الأَحْزَابِ ، فَوَضَعَ رِدَاءَ هُ وَقَامَ ، وَرَفَعَ يَدَيهِ مَدًّا يَدْعُو عَلَيهِمْ ، وَلَمْ يُصَلِّ - قال - ثُمَّ جَاءَ وَدَعَا عَلَيهِمْ وَصَلَّى )) .
وهذا الحديث بهذا الإسناد أورده السيوطي في فضِّ الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء برقم (26) .
وهذه الطريق ضعيفة المتن والإسناد جميعًا .
أمَّا ضعف إسنادها فلأن فيه رجلاً مبهمًا وهو الراوي عن جابر هذا الحديث ، وبقية رجال أحمد ثقات .
ومثل هذا الإسناد يتقوى به الإسناد الذي أخرجه ابن سعد وغيره من طريق كثير بن زيد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر ، ولكن بشروط .
الأول : أن يتابع كثير بن زيد ولو بضعيف يعتبر به على روايته عن عبد الرحمن بن كعب ، فيصح بذلك الخبر إلى عبد الرحمن بن كعب فمن بعده .
وما رواه ابن أبي ذئب لا يعد متابعة لكثير بن زيد ، لا تامة ولا قاصرة ؛ لأنه لم يروه عن عبد الرحمن بن كعب ، فيتابعه متابعة تامة .
بل تفرد بالتحديث عن عبد الرحمن بن كعب كثير بن زيد ، وهو ضعيف ؛ فالحديث على هذا لم يصح عن عبد الرحمن بن كعب ، فكيف يتابع غيره ؟( )
فإن قيل إن ابن أبي ذئب تابع كثير بن زيد متابعة قاصرة تلتقي في راوي الحديث جابر بن عبد الله ، اعترضنا على ذلك أيضًا بأن هذه المتابعة لم تصح عن جابر ؛ لأن في إسنادها رجلاً مبهمًا ، ذاك الذي من بني سلمة !!
الثاني : أن يكون كثير بن زيد لم يروه إلا عن عبد الرحمن بن كعب ، لا أن يكون مضطربًا فيه !!
فتارة يرويه عن عبد الله بن عبد الرحمن ، وتارة يرويه عن أبيه - كما هو الواقع منه في روايته لهذا الحديث - ، فعندها لا يمكن تحديد المحفوظ عنه حتى وإن تابعه معتبر على إحداهما ، فهذا لا يعني أن المحفوظ عنه عن فلان ذاك الذي توبع عليه ؛ لأن المتابعة بنوعيها ؛ التامة والقاصرة تكون على شيء معين .
والتعيين هنا غير حاصل ، بل لا يستطاع ! لأن كثير بن زيد على ضعفه اضطرب في روايته إسنادًا ومتنًا ، فمن لي بالمحفوظ عنه وله وله !
نعم ؛ ربما كانت متابعة ما على أحدهما قرينة على أن المحفوظ عنه هو ذاك الذي توبع عليه ، ولكن الجزم بذلك دونه خرط القتاد !
الثالث : أن لا يكون هناك احتمال اتحاد في مخرج ضعيف كما هو الحال في هذه الأسانيد التي ربما تقوى أحدهما بالآخر ، فيرقى الحديث بهما إلى درجة الحسن لغيره ، ولكن احتمال اتحاد المخرج والتقائه في رجل ضعيف يمنع من تقوية أحدهما بالآخر ؛ لأنه ربما كان إسنادًا واحدًا فيه رجل ضعيف .
وقد ورد الاحتمال على هذه الأسانيد ، فإن في الإسناد الأول راويه عن جابر ؛ عبد الله بن عبد الرحمن ، وفي الثاني أبوه عبد الرحمن بن كعب ، وفي الثالث رجل من بني سلمة ، ولعل هذا الأخير هو أحد ذينك الرجلين عبد الله بن عبد الرحمن أو أبوه عبد الرحمن ؛ لأنهما أنصاريان من بني سلمة( ) .
فلا يستبعد بعدها أن يكون ابن أبي ذئب لم يسم عبد الله بن عبد الرحمن أو أباه ، وقال : عن رجل من بني سلمة .
ولو كان ذلك المبهم هو عبد الرحمن بن كعب لهان الخطب ، بل اضمحل ؛ لأن عبد الرحمن ثقة .
ولكن أخشى ما أخشاه أن يكون ذاك المبهم هو عبد الله بن عبد الرحمن ، وهو مستور الحال كما تقدم .
لهذا الاحتمال ؛ فإني أجد نفسي مضطرة للتوقف عن تقوية أحد هذه الأسانيد بالآخر خشية اتحاد المخرج في هذا الضعيف .
لا سيما وأن ابن أبي ذئب - على ثقته - وإمامته فإنه قد يروي عن الضعفاء ، كما قال الخليلي( ) .
بل قال الإمام أحمد فيه : (( ... ابن أبي ذئب كان لا يبالي عن من يحدث !! ))( ) .
وقال البخاري كما في ترتيب علل الترمذي (ص34) : (( ابن أبي ذئب سماعه من صالح - مولى التوأمة - أخيرًا ، ويروي عنه مناكير ))( ) .
وهذه النصوص من أعلام الهدى ومصابيح الدجى تزيدنا حذرًا وتحفظًا عما رواه ابن أبي ذئب عن أولئك الضعفاء والمجهولين والمبهمين !
هذا ما يخص تلك الأسانيد ، وأما ضعف المتن فهو يكمن في مخالفة متن الرواية الثانية لمتن الرواية الأولى ، والثالثة للأولى والثانية ، والرابعة للأولى والثانية وشيء من الثالثة ؛ فقد جاء دعاؤه في الرواية الأولى في مسجد الفتح ، وفي الثانية في مسجد قباء ، وفي الثالثة والرابعة في مسجد الأحزاب ، ومسجد الأحزاب غير مسجد الفتح كما بينت ذلك في (ص70) .
وجاء أيضًا دعاؤه ثلاثًا في الأولى والثانية والثالثة ، وأما في الرابعة فجاء مفهوم دعائه أنه مرتين لا ثلاثًا .
وجاء في الأولى والثانية والثالثة والتي مدارها على كثير بن زيد أنه استجيب له يوم الأربعاء ، وقد تفرد بها كثير بن زيد ، ولم تأت في الرواية الرابعة ، فهي زيادة على ضعفها ، ليس لها متابع ولا شاهد ، وعليه لا فضل ليوم الأربعاء على سائر الأيام ! فليكن هذا على ذِكْرِكَ .
وجاء قول جابر : (( فَلَم يَنْزِلْ بِي أَمْرٌ مُهِمٌّ غَلِيظٌ )) الخ في الرواية الأولى والثانية والثالثة ، والتي مدارها على كثير بن زيد ، ولم يأت في الرواية الرابعة ، وتفرد بها كثير بن زيد ، فهي زيادة ضعيفة لا يعول عليها ، ومن ثم فإن هذا القول لم يثبت عن جابر ، وليكن هذا على ذِكْرِكَ أيضًا .
وتفرد متن الرواية الرابعة بأنه صلى في مسجد الأحزاب ، ولم يأت ذلك في الأولى والثانية والثالثة ، فقد اقتصرت على ذكر الدعاء في أحد ثلاثة مساجد : الفتح ، وقباء ، ومسجد الأحزاب أيضًا ، وهذا المتن يتعارض مع ما رواه الطبراني في المعجم الكبير (12/369/13370) عن حسين بن محمد الأنماطي عن مصعب بن عبد الله الزبيري عن عبد العزيز بن محمد
- وهو الدراوردي - عن عبيد الله بن عمر عن نافع قال : قيل لابن عمر : أين كان رسول الله يصلي يوم الأحزاب ؟ قال : (( كَانَ يُصَلِّي في بَطْنِ الشِّعْبِ عِنْدَ خَرِبَةٍ هُنَاكَ ... )) .
قال الهيثمي في المجمع (6/135) رواه الطبراني ، ورجاله ثقات .
وهذا المتن كما ترى أنه كان يصلي في بطن الشعب عند خربة هناك !! لا في أحد تلك المساجد الفتح أو الأحزاب أو غيرهما .
وقوله : (( كان يصلي )) يفيد الأغلبية ، وما قارب شيئًا أخذ حكمه ما لم يأت ما يدل على خلاف الحكم بالأغلبية ، فصلاته في هذا المتن كانت عند تلك الخربة في بطن الشعب لا في سفح الجبل .
ولا دليل لهم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره من طريق ابن أبي ذئب عن رجل من بني سلمة عن جابر أنه صلى في مسجد الأحزاب.
لأن هذا الإسناد ضعيف ؛ لإبهام ذلك الرجل الذي من بني سلمة ، وهو أضعف من الإسناد الذي رواه الطبراني في معجمه من طريق عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر .
وهذا الإسناد أقوى مما رواه ابن أبي ذئب ؛ لأن ضعف عبد العزيز بن محمد الدراوردي في روايته عن عبيد الله بن عمر معروف ، فهو يخطئ ويغلط في أحاديث عبد الله بن عمر العمري المكبر الضعيف ويقلبها ، فيرويها عن عبيد الله بن عمر المصغر الثقة .