4- الرغبة الصادقة من النبي صلى الله عليه و سلم في تجاوز هذه الأزمة ، و حسن أخلاقه وكمال شفقته ، و ذلك عند سروره باختيارهن الله و رسوله و الدار الآخرة ، و جاء في روايات أخرى " فضحك " و أيضا " ففرح " كما نقل ذلك ابن حجر في الفتح ، و يعجز القلم ، و يقصر البيان، في وصف تلك المشاعر النبوية الصادقة ، فلم يتكبر النبي صلى الله عليه و سلم عليهن ، أو يعلن عدم اهتمامه بما يخترنه ! و لم يشعرهن بأن حاجتهن له أعظم من حاجته لهن ، و أنه يملك المقومات التي تجعلهن يخترنه بدون تردد ، و خاصة أن نصره جاء من السماء ، لم يكن هناك أي شيء من هذه المشاعر التي قد يشعر بها بعضنا عند تعاملنا مع أزواجنا ، بل كان النبي صلى الله متلهفاً مشفقاً محباً لنسائه ، و لذلك سر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك جداً ، مما يعطينا مساحة واسعة لمعرفة أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم ، و مشاعره الصادقة ، و حسن تعامله ، و لو كان تعاملنا بمثل هذه المشاعر السامقة ، و الأخلاق العالية ، لتغير واقعنا ، و لصلحت أحوالنا ، و لتحولنا إلى شمس مشرقة تنير للناس الطريق.
5- و من حسن أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم في هذه المشكلة ، و التي تدل على شفقته و رحمته و رغبته الصادقة في تقديم الخير للناس ، دخوله على كل واحده من أزواجه التسع ، و قراءة آيات التخيير عليها ، ثم التوجيه بعدم العجلة و الاستشارة ، و كان بإمكانه عليه الصلاة و السلام على كثرة مشاغله ، و كثرة أزواجه ، و موجدته و غضبه عليهن ، كان بإمكانه أن يجمعهن بمكان واحد ، ثم يقرأ عليهن ما نزل ، ثم يطالبهن بالرد فورا ، و لكنها أخلاق النبي الكريم – صلوات الله و سلامه عليه ، و دخوله على كل واحدة من أزواجه ، تعطينا صورة واضحة على مدى أخلاقه و شفقته و رحمته التي لا تفارقه في الغضب و الرضى .
6- قررت هذه الآيات مبدأ الاستشارة و عدم التعجل في اتخاذ القرار و تبنيه ، و ذلك عند قول النبي صلى الله عليه و سلم لعائشة – رضي الله عنها – " إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك" و خاصة أن معاناة كثير من بيوت المسلمين اليوم تعود لهذين السببين ، ففي فورة الغضب و صولته ، تطلق الأحكام ، و تلقى الكلمات بدون زمام ، و من ثم تخرب البيوت ، و يتشتت الأطفال ، و يتفرق الزوجان على مضض ولات حين ندم ، فينبغي أن يتبنى المسلم هاتين القاعدتين ، و خاصة في الأمور المصيرية الكبرى ، كالزواج و الطلاق و نحوها ، كما أن في مقال النبي صلى الله عليه و سلم هذا دليل على إرشاد الفاضل إلى استشارة المفضول حسب ما تقتضيه المصلحة ، و هذا من خلق النبي صلى الله عليه و سلم و حسن أدبه و مزيد شفقته على أمته.
7- و في الآيات تذكير بقوة الرابطة الزوجية حتى بعد الطلاق إن حصل ، فهنا نساء النبي صلى الله عليه و سلم بين اختيار الله و رسوله و الدار الآخرة ، أو اختيار الحياة الدنيا و زينتها ، و مع ذلك لم يكن هناك أي تعنيف لهن إن آثرن الحياة الدنيا ، و ليس هناك محاكمات عند الطلاق ، أو إغلاظ بالقول أو تأنيب بل ( إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً{28}قال ابن سعدي ( سراحاً جميلا ) من دون مغاضبة و لا مشاتمة ، بل بسعة صدر و انشراح بال ، " ا.هـ فجمع لهن إن اخترن الحياة الدنيا و زينتها متعة الطلاق التي بها جبر لخاطر المطلقة ، و السراح الجميل الذي يكون يدون أذى من قول أو فعل ، مع أن المقام يقتضي غير ذلك ، مما يدل على عظمة هذا الدين و كماله ، و شموله لحاجات البشر ، كما يدل على جهل الكثير منا بهذه المبادئ و المفاهيم التي جاء بها ديننا ، و لعل نظرة في المحاكم و لجان إصلاح ذات البين ، تدلنا على غياب هذه التوجيهات و الأخلاق العالية التي أمرنا بها ديننا ، مع أن حقوقنا لن تبلغ حقوق النبي صلى الله عليه و سلم ، و مشاكلنا مهما تفاقمت ، فلن تبلغ درجة الإيثار على الله و رسوله و الدار الآخرة ، و مع هذا قيل لهن (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ) .
خامساً : في هذه الآيات دليل على أن يسعى المسلم لتفريغ همومه و حل مشاكله ، و مواجهتها و عدم تركها حتى تتفاقم و تنفجر ، فالله عز وجل قد دافع عن حبيبه و نبيه ، حتى لا يكون مشغول البال بهموم بيته و مشاكله ، و يكون مطمئن النفس ، منشرح الصدر ، حين يرجع لبيته بعد عناء الدعوة و مكابدة المشاق ، فجلبت هذه الآيات الراحة و الهدوء لنبينا صلى الله عليه و سلم ، حتى انتقل إلى جوار ربه ، حيث ترك أزواجه - رضوان الله عليهن – المطالبة بالتوسعة في النفقة ، و رضين بعيشة الكفاف ، كما تركن الغيرة و ما تسببه من أذى للنبي صلى الله عليه و سلم ، و أصبحت كل واحدة راضية بما قسم الله لها ، و كذا كل مسلم فعليه مواجهة ما يتعرض له من مشاكل و عقبات ، و خاصة ما يكون في بيته ، و أن تكون لديه الرغبة الصادقة في حل هذه المشاكل و الهموم ، ، و يزيح كل ما يكدر عليه حياته ، و يصفي شوائبها ، و هذا سهل و هين لمن سهله الله عليه ( و جعل بينكم مودة و رحمة ) و قال تعالى ( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ).
سادساً : كما أن في الآيات تقرير لمبدأ أن ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ) فلما ترك أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مطالبهن بالتوسعة في الدنيا، إيثارا لله و رسوله و الدار الآخرة ، عوضهن الله في الدنيا قبل الآخرة و جُمع لهن خير الدنيا و الآخرة ، بشكل لم يخطر على بالهن أبدا ، قال ابن جرير في نفسيره لقوله تعالى : "لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج" " ( وإنما نهي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يفارق من كان عنده ، بطلاق أراد به استبدال غيرها بها، لإعجاب حسن المستبدلة له بها إياه ، إذ كان الله قد جعلهن أمهات المؤمنين ، وخيرهن بين الحياة الدنيا والدار الآخرة، والرضا بالله ورسوله، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فحرمن على غيره بذلك " فتأمل شكر الله لهن ، و تعويضهن بهذا الخير ، إذ نهي النبي صلى الله عليه و سلم أن يطلقهن ، و نهيت الأمة عن الزواج بهن بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم ، و سماهن الله بأمهات المؤمنين ، ثم تأمل بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم " وتمكين أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من كنوز الأرض حتى صار الصحابة رضوان الله عليهم يكيلون المال كيلاً، وفاوت – أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه – بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والبعد منه, وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة, ونزّل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس فكان فرضه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً لكل واحدة وهي نحو ألف دينار في كل سنة، وأعطى عائشة رضي الله عنها خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فأبت أن تأخذ إلا ما يأخذه صواحباتها، وروى عن برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر رضي الله عنه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها بالذي لها فلما أدخل إليها قالت: غفر الله لعمر! غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني، قالوا: هذا كله لك يا أم المؤمنين، قالت: سبحان الله! واستترت منه بثوب، ثم قالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً، ثم قالت لي: ادخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، قالت برزة بنت رافع: فقلت: غفر الله له يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا المال حق، قالت: فلكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً، ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت - ذكر ذلك البلاذري في كتاب فتوح البلاد " ا.هـ نقلاً من كلام البقاعي بتصرف.
فمن آثر الله و اختاره ، فبشره بالخير و العاقبة الحسنة في الدنيا و الآخرة ، و هذه رسالة من هذه الآيات لا بد من استيعابها جيداً ، و خاصة بأن العالم اليوم يموج بالفتن و المحن ، و انشغل الكثير بمتاع الدنيا و لهوها ، و لو عقلوا أمرهم و تفكروا ، لعلموا بأن من أصلح أمر آخرته ، أصلح الله دنياه ،قاعدة راسخة ، و سنة ماضية ، و لله الأمر من قبل و من بعد.