من بلاد فارس ... يجيء البطل هذه المرة ..
افتحوا أبصاركم جيداً ....
أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل ..؟
إنه ( سلمان الفارسي ) ....!
انظروه جيداً ...
انظروه جيداً في ثوبه القصير الذي انحسرمن قصره الشديد إلى ركبته ..
إنه هو ، في جلال مشيبه ، وبساطة إهابه .
لقد كان عطاؤه وفيراً ...كان بين أربعة آلاف وستة آلاف في العام – بيد أنه كان يوزعه جميعاً ، ويرفض أن يناله منه درهم واحد ، ويقول : " أشتري خوصاً بدرهم ، فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم ، فأعيد درهماً فيه ، وأنفق درهماً على عيالي ، وأتصدق بالثالث ..ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت "!
ثم ماذا ، يا أتباع محمد .....؟
ثم ماذا يا شرف الإنسانية في كل عصورها ومواطنها ...؟
لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم ، مثل أبي بكر وعمر وأبي ذر وإخوانهم ، أن مرجع ذلك طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة ..
فها نحن أولاء أمام رجل من فارس .. بلاد البذخ والترف والمدنية ، ولم يكن من فقراء الناس بل من صفوتهم ..ما باله اليوم يرفض المال والثروة والنعيم ، ويصر على أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده ...؟
ثم ما باله حين يلي هذه الإمارة المفروضة عليه فرضاً يأبى أن يأخذ عطاءها الحلال ...؟؟
ما باله يصنع كل هذا الصنيع ، ويزهد كل ذلك الزهد ، وهو الفارسي ، ابن النعمة ، وربيب الحضارة ..؟
لنستمع الجواب منه . وهو على فراش موته . تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم .
دخل عليه ( سعد بن أبي وقاص ) يعوده ، فبكى سلمان .
قال له سعد : " ما يبكيك يا أبا عبد الله ...؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض".
فأجابه سلمان : " والله ما أبكي جزعاً من الموت ، ولا حرصاً على الدنيا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً ، فقال : ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ، وهاأنذاحولي هذه الأساود!!!
يعني بالأساود الأشياء الكثيرة !
قال سعد : فنظرت ، فلم أر حوله إلا حفنة ومطهرة ، فقلت له : يا أبا عبد الله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك ، فقال : "يا سعد :
اذكر الله عند همك إذا هممت ....
وعند حكمك إذا حكمت ...
وعند يدك إذا قسمت ..."
هذا إذن هو الذي ملأ نفسه غنى ، بقدر ما ملأها عزوفاً عن الدنيا بأموالها ،ومناصبها ، وجاهها ...
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وإلى أصحابه جميعاً : ألا يدعوا الدنيا تتملكهم ، وألا يأخذ أحدهم منها إلا مثل زاد الراكب ..
ولقد حفظ (سلمان ) العهد ، ومع هذا هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل ، مخافة أن يكون قد جاوز المدى .
ليس حوله إلا جفنة يأكل فيها ، ومطهرة يشرب منها ويتوضأ .. ومع هذا يحسب نفسه مترفاً ...
ألم أقل لكم إنه أشبه الناس بعمر ..؟
وفي الأيام التي كان فيها أميراً على المدائن ، لم يتغير من حاله شيء . فقد رفض – كما رأينا – أن يناله من مكافأة الإمارة درهم ...وظل يأكل من عمل الخوص ... ولباسه ليس إلا عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها ..