عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 1  ]
قديم 2008-05-27, 1:08 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي ( امنحني تجربتك ) في فن الدعوة
( امنحني تجربتك ) في فن الدعوة


قال لي صاحبي يوماً معاتباً :
أرى ( فلاناً ) عالقاً في عقلك ، مغروساً في أعصابك ، فلا تفتر عن الحديث عنه ،
والتعليق عليه ، والرد والتعقيب على ما يقوله ، أو يكتب فيه ..!
قلت في شيء من النشوة :
هو كذلك ..أشبه ما يكون بالشوكة ، قد ذهبت عمقاً في رجل واطيها ..
لا أحتمله لكثرة ما يدندن حوله من سفاسف _كتابةً أو حديثاً _..
وليت الأمر استقر على هذه السفاسف يلوكها ويجترها ، كما يجتر البعير طعامه .!
لكنه كثيراً ما يتجاوز حده ، فيغدو بوقاً لأفكار تنسف جذور هذه الأمة ،
وتقطع حبالها مع السماء ، لتلتصق بأوحال الأرض !!

ابتسم صاحبي ..ثم قال وهو يمرر يده على لحيته الجميلة :
أخرجه من راسك وسترتاح !!

قلت في نبرة قوية :
كيف ؟ وهو أشبه بالقذى في العين ، والعظم في الحلق ، والصداع في الرأس !!

قال : اغسل وجهك بماء الوضوء وسيتساقط القذى الذي يؤذيك ، وعالج العظم الناشب ،
حتى تقذفه خارج حلقك ..لا تشغل بالك به ، ودع الأيام تأكله..!!

قلت : الذي أحاوله إنني أريد أن أغسل وجه الحياة ، مما يعكره هذا المارق فيها ،
من أفكار تنسف أصولها ، وتشوش فطرتها ..!!

قال صاحبي مقاطعاً :
أتدري !؟ أحسبك تخدمه وتبنيه أكثر مما تهدمه ، وترفعه بقدر ما تظن أنك تضعه ..!!
وارتسمت على وجهي عشرات علامات التعجب في وجهي وواصل كلامه :
إنك بردودك العنيفة عليه ، تلفت النظر إليه ، وتدير الأعين نحوه ، ولعل عيوناً كانت مغمضة ،
فجاء ردك الساخن القوي ، ففتح تلك الأعين لتقرأ له ، وتتابع ما يكتب ، وتصغي إلى ما يقول ،
ربما في البداية من باب الفضول ، ثم ينشب بعض أشواكه في حلوق تلك القلوب !!

وبدأت كالمذهول ..فلأول مرة أنتبه لهذا المعنى ..! وواصل كلامه :
الناس يا صاحبي يهوون الجدال ، ويحبون أن يشاهدوا معركة بالأيدي والأرجل ،
والعصي و هي تعلو وسط الضجيج ، ومعركة الأقلام أحياناً تكون أعنف وأوقع
وأكثر إثارة من معركة الأيدي والعصي والأضراس !!
ومن هنا تأتي خطورة أن ترد على كل كلمة تقال ، وعلى كل فكرة تطرح ، وقد قيل قديماً :

ولو كل كلبٍ عوى ألقمته حجراً ** لصار كل مثقال بدينارِ

ثم ما يدريك لعل ردك عليه لن يكون شافياً في قلوب كثيرين ،
فإذا الشيطان يزين فيها ذلك العرض المزخرف مع أنه باطل ، فتكون بهذا قد ساهمت
في فتح مصاريع قلوب كانت غافلة ، ليغرس فيها ذلك الخصم بذور أفكاره التي لم ترق لك ،
ولم تعجبك ..!!

وشعرت أنني في دوامة ، وبدوت أمامه كالأبله فاغر الفم ، مفتوح العينين ..!
وواصل صاحبي كلامه قائلاً :

وشيء آخر .. هذه الردود الساخنة المتوالية التي أراك تصبها كالحمم ،
بزعم أنك لا تستطيع السكوت على منكر ، قد تكون مجرد تزيين شيطان في قلبك ،
لتمضي قدماً في طريق حرق البيادر كلها ، لاسيما وأنت في الحقيقة
_ مع احترامي الشديد لك _ أقل سلاسة في الحديث من خصمك ،
وأقل زخرفة للكلام منه ، وأقل جمالا في العرض !! ويأتي كلامك الغالب انفعالياً فحسب ،
رغم قوة حججه ..!!

وأقول لك : ما كل صاحب حق يحسن عرضه ، كما أنه ليس كل تاجر يجيد عرض بضائعه ،
والتحبيب فيها ، والدعاية لها ، وهذا من هذا أو هو قريب .!!
وشيء آخر ..
هذا الهجوم الضاري قد يكون سبباً في أن يغلق خصمك كل بوابات قلبه ،
عن سماع الحق الذي تريد أن توصله إليه ، فتأخذه العزة بالإثم ،
ويزين له الشيطان أن يبني حصوناً وقلاعاً ، وخنادق بينه وبين الحق من باب العناد ،
فأكثر الناس يعتبرون النصيحة في الملأ فضيحة ..!!

قلت : فما العمل وأنا لا أكاد أقرأ له شيئاً حتى اشتعل !؟

قال مبتسماً : إذن ما أسهل أن تحترق !!
كن يا صاحبي كالنهر إذا اعترضته صخرة دار حولها ، وتجاوزها وخلفها وراءه ،
ثم غمرها بعد ذلك بمياهه ..!!
اعتبره كأنه لم يقل ، ولم تسمع ،
هذا إذا لم تستطع أن تضرب عنه صفحا ، فلا تقرأ له أصلاً ، ما دام يسبب لك كل هذا الوجع !!
هززت رأسي وقلت مبتسماً :
أما كونه وجع فحدّث ولا حرج !
وأما أن أعرض عنه فذلك الذي يكون بلع النار أهون عليّ منه !!

قال : إذن دعني أقص عليك قصة مشابهة ،
لعل في القصة أثراً أبلغ من النصيحة المباشرة ..

قلت : هات .. فإني أصغي ..
وأخذ يقص عليّ قصة عجيبة عن سيد قطب رحمه الله ، وخلاصتها كالتالي :
أن الكاتب الذي يروي هذه القصة قال :

أنه قرأ يوماً مقالا في إحدى المجلات المصرية لسيد رحمه الله _ قبل التزامه _ ،
ولم يرق له المقال ، لما فيه من مخالفة شرعية ، فكتب رداً عنيفا وقوياً ومزلزلاً
على ذلك المقال ، وطالب أصحاب الجريدة أن ينشروا الرد في نفس مكان نشر ذلك المقال ..!!

قال : وأعجبني ما كتبت ، ورأيت أنه رد قوي وشافٍ ومفحم ،
و شعرت أن الله وفقني فيه أيما توفيق ..
غير أني لم استعجل إرسال الرد إلى الجريدة ، وآثرت أن أستشير شيخاً جليلا أحبه ،
وأثق في فقهه للأمور وحسن حكمته ، وعرضت عليه المقال ثم الرد ،
فقرأهما بعناية ، وكان يهز رأسه وهو يقرأ الرد معجباً ، فلما انتهى ، نظر إليّ وقال :
رائع جداً .. رد قوي وشاف .. بارك الله فيك وفي قلمك ، وفي حرقتك لدينك ..
وانتشيت لكلامه .. غير أنه قال باسماً:
ومع هذا ...فهل تأذن لي أن أمزق هذا الرد !!!!!!
وعجبت بل ذهلت !!
فأخذ يستعرض أمورا سلبية عدة ، يرى أن هذا الرد قد يتسبب بها ، وكان منها أن قال :

وما يدريك لعل هذا الشاب يصلح يوماًُ ، فيكون خيرا مني ومنك ..!!!!
فلا تقطع عليه الطريق .. فلعل رداً عنيفا كهذا يجعله ممن تأخذهم العزة بالإثم ..!
لكن لا باس أن تحتال على مناصحته إن استطعت ..!
وعرض نقاطا كثيرة تصب لصالح تمزيق ذلك الرد الجميل !!

ووافقت .. وتمر الأيام والليالي وتليها سنوات قليلة ، وإذا بسيد رحمه الله ذلك العملاق
المنافح عن دين الله ، الرافع لواء الدعوة بكل ثبات وجرأة .. حتى مضى فيما نحسب شهيداً ..
والله حسيبه ..

قال الراوي : تأثرت بهذه القصة كثيراً .. وفعلت في نفسي الكثير ،
واقتنعت أخيراً بما كان يوجهني إليه صاحبي ..
وآثرت أن أسعى لأحتال لمناصحة ذلك الإنسان لعل الله يصلحه ،
ومن يدري لعل خاتمته تكون خير من خاتمتي وخاتمة كثيرين من أمثالي
الذين يرون أنهم ، وأنهم ..وأنهم .. وأنهم ....!! ( وهم في الحقيقة هواء !! )






بو عبد الرحمن