. . وإنه لاتجاه إلى حقيقة لا يتجه إليها التفكير البشري على هذا النحو .
واتجاه إلى تصور هذه الحقيقة وتصويرها على غير مألوف البشر كذلك .
وإنما هو التوجيه الإلهي الخاص إلى هذا الأمر العجيب .
والتعمير يكون بطول الأجل وعد الأعوام ; كما يكون بالبركة في العمر ,
والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقاً مثمراً ,
واحتشاده بالمشاعر والحركات والأعمال والآثار .
وكذلك يكون نقص العمر بقصره في عد السنين ;
أو نزع البركة منه وإنفاقه في اللهو والعبث والكسل والفراغ .
ورب ساعة تعدل عمراً بما يحتشد فيها من أفكار ومشاعر ,
وبما يتم فيها من أعمال وآثار .
ورب عام يمر خاوياً فارغاً لا حساب له في ميزان الحياة ,
ولا وزن له عند الله !
وكل ذلك في كتاب . . كل ذلك من كل كائن في هذا الكون
الذي لا يعرف حدوده إلا الله . .
والجماعات كالآحاد . والأمم كالأفراد . .
كل منها يعمر أو ينقص من عمره . والنص يشمله .
بل إن الأشياء لكالأحياء .
وإني لأتصور الصخرة المعمرة , والكهف المعمر , والنهر المعمر
, والصخرة التي ينتهي أجلها أو يقصر فإذا هي فتات ;
والكهف الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو محطم أو مسدود ;
والنهر الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو غائض أو مبدد !
ومن الأشياء ما تصنعه يد الإنسان . البناء المعمر أو القصير العمر .
والجهاز المعمر أو قصير العمر . والثوب المعمر أو قصير العمر . .
وكلها ذات آجال وأعمار في كتاب الله كالإنسان .
وكلها من أمر الله العليم الخبير . .
وإن تصور الأمر على هذا النحو ليوقظ القلب إلى :
تدبر هذا الكون بحس جديد , وأسلوب جديد
. وإن القلب الذي يستشعر يد الله وعينه على كل شيء بمثل هذه الدقة
ليصعب أن ينسى أو يغفل أو يضل .
وهو حيثما تلفت وجد يد الله . ووجد عين الله . ووجد عناية الله
, ووجد قدرة الله , متمثلة ومتعلقة بكل شيء في هذا الوجود .
وهكذا يصنع القرآن القلوب !
***
.. الصورة الثـالثة :
)وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
(لقمان:27)
تختم هذه الجولة بمشهد كوني يرمز إلى غنى الله الذي لا ينفد ,
وعلمه الذي لا يحد , وقدرته على الخلق والتكوين المتجددين بغير ما نهاية ,
ومشيئته المطلقة التي لا نهاية لما تريد:
ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام , والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ,
ما نفدت كلمات الله . إن الله عزيز حكيم .
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . إن الله سميع بصير . .
إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة ,
ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود ;
والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل .
إن البشر يكتبون علمهم , ويسجلون قولهم , ويمضون أوامرهم ,
عن طريق كتابتها بأقلام - كانت تتخذ من الغاب والبوص –
يمدونها بمداد من الحبر ونحوه .
لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة !
فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلاما .
و جميع ما في الأرض من بحر تحول مدادا .
بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك . .
وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة , الدالة على علمه ,
المعبرة عن مشيئته . . فماذا ? لقد نفدت الأقلام ونفد المداد .
نفدت الأشجار ونفدت البحار .
. و كلمات الله باقية لم تنفد , ولم تأت لها نهاية . .
إنه المحدود يواجه غير المحدود . ومهما يبلغ المحدود فسينتهي ;
ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئا على الإطلاق
. . إن كلمات الله لا تنفد , لأن علمه لا يحد , ولأن إرادته لا تكف ,
ولأن مشيئته - سبحانه - ماضية ليس لها حدود ولا قيود .
وتتوارى الأشجار والبحار , وتنزوي الأحياء والأشياء ;
وتتوارى الأشكال والأحوال
. ويقف القلب البشري خاشعا أمام جلال الخالق الباقي
الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب
; وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم: إن الله عزيز حكيم . .
وأمام هذا المشهد الخاشع يلقي بالإيقاع الأخير في هذه الجولة ;
متخذا من ذلك المشهد دليلا كونيا على يسر الخلق وسهولة البعث:
( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . إن الله سميع بصير). .
والإرادة التي تخلق بمجرد توجه المشيئة إلى الخلق ,
يستوي عندها الواحد والكثير ; فهي لا تبذل جهدا محدودا في خلق كل فرد ,
ولا تكرر الجهد مع كل فرد .
وعندئذ يستوي خلق الواحد و خلق الملايين .
وبعث النفس الواحدة وبعث الملايين .
إنما هي الكلمة . هي المشيئة:
(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). .
ومع القدرة : العلم والخبرة مصاحبين للخلق والبعث وما وراءهما
من حساب وجزاء دقيق: ( إن الله سميع بصير). .
***
كتبها بو عبدالرحمن