عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 4  ]
قديم 2008-05-17, 12:54 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
ويطول بنا الاستعراض , ونخرج على منهج هذه الظلال ,

لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو ,

فنسرع الخطى إلى [ الإميبا ] وهي ذات الخلية الواحدة

لنرى يد الله معها , وعينه عليها , وهو يقدر لها أمرها تقديرا .

والإميبا كائن حي دقيق الحجم . يعيش في البرك والمستنقعات ,

أو على الأحجار الراسبة في القاع . ولا يرى بالعين إطلاقا .

وهو يرى بالمجاهر , كتلة هلامية , يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات . فعندما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد تستعملها كالأقدام ,

للسير بها إلى المكان المرغوب . ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة .

وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين , وتفرز عليه

عصارة هاضمة , فتتغذى بالمفيد منها ,

أما الباقي فتطرده من جسمها ! وهي تتنفس من كل جسمها

بأخذ الأكسوجين من الماء . .

فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقا بالعين , يعيش ويتحرك , ويتغذى

ويتنفس , ويخرج فضلاته !

فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين , ليكون كل قسم حيوانا جديدا . .

***

وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة

عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير

والتقدير فيها لا يقل ظهورا وبروزا عنه في تلك الأحياء .

(وخلق كل شيء فقدره تقديرا) . .

على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير .

إن حركة هذا الكون كله بأحداثها ووقائعها وتياراتها

مقدرة مدبرة صغيرها وكبيرها .

***

كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد , ككل نفس يخرج من صدر !

إن هذا النفس مقدر في وقته , مقدر في مكانه , مقدر في ظروفه كلها ,

مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون , محسوب حسابه في التناسق الكوني ,

كالأحداث العظام الضخام !

وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء . .

إنه هو الآخر قائم هناك بقدر . وهو يؤدي وظيفة ترتبط

بالوجود كله منذ كان !

وهذه النملة الساربة وهذه الهباءة الطائرة ،

وهذه الخلية السابحة في الماء . كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء !

تقدير في الزمان , وتقدير في المكان , وتقدير في المقدار ,

وتقدير في الصورة . وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال .

***

من ذا الذي يذكر مثلا أن زواج يعقوب من امرأة أخرى

هي أم يوسف وبنيامين أخيه , لم يكن حادثا شخصيا فرديا . .

إنما كان قدرا مقدورا ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه ,

فيأخذوه فيلقوه في الجب - ولا يقتلوه - لتلتقطه السيارة .

لتبيعه . في مصر . لينشأ في قصر العزيز .

لتراوده امرأة العزيز عن نفسه . ليستعلي على الإغراء .

ليلقى في السجن . .

لماذا ?...

ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك . ليفسر لهما الرؤيا . .

لماذا ?... إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب ،

ويقف ناس من الناس يسألون : لماذا ? لماذا يا رب يتعذب يوسف ?

لماذا يا رب يتعذب يعقوب ? لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن ?

ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم , المنوع الأشكال ? لماذا ?

. ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب ,

لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة

في سني القحط السبعة ! ثم ماذا ? ثم ليستقدم أبويه وإخوته .

ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل . ليضطهدهم فرعون .

لينشأ من بينهم موسى - وما صاحب حياته من :

تقدير وتدبير - لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات

يعيش العالم فيها اليوم بكليته ! وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه !!

***

ومن ذا الذي يذكر مثلا أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية

لم يكن حادثا شخصيا فرديا . إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم

من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر ,

ليأخذ منها هاجر , لتلد له إسماعيل . ليسكن إسماعيل وأمه

عند البيت المحرم . لينشأ محمد [ صلى الله عليه وسلم ]

من نسل إبراهيم - عليه السلام - في هذه الجزيرة . أصلح مكان

على وجه الأرض لرسالة الإسلام . .

ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام !

إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد . لكل حادث . ولكل نشأة .

ولكل مصير . ووراء كل نقطة , وكل خطوة , وكل تبديل أو تغيير .

إنه قدر الله النافذ , الشامل , الدقيق , العميق .

وأحيانا يرى البشر طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد .

وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير ,

فتخفى عليهم حكمة التدبير . فيستعجلون ويقترحون

وقد يسخطون . أو يتطاولون !

والله يعلمهم في هذا القرآن :

أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر , وتطمئن قلوبهم وتستريح

ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق ,

وفي أنس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق . .

***

ومع التقدير والتدبير , القدرة التي تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات:

( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر). .

فهي إشارة واحدة . أو كلمة واحدة

يتم بها كل أمر: الجليل والصغير سواء .

وليس هنالك جليل ولا صغير . إنما ذلك تقدير البشر للأشياء .

وليس هنالك زمن ولا ما يعادل لمح البصر .

إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر .

فالزمن إن هو إلا تصور بشري ناشيء من دورة أرضهم الصغيرة ,

ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة .

واحدة تنشئ هذا الوجود الهائل . وواحدة تبدل فيه وتغير .

وواحدة تذهب به كما يشاء الله . وواحدة تحيي كل حي .

وواحدة تذهب به هنا وهناك . وواحدة ترده إلى الموت ،

وواحدة تبعثه في صورة من الصور . وواحدة تبعث الخلائق جميعا .

وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب .

- - --





كتبها بو عبدالرحمن