ويطول بنا الاستعراض , ونخرج على منهج هذه الظلال ,
لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو ,
فنسرع الخطى إلى [ الإميبا ] وهي ذات الخلية الواحدة
لنرى يد الله معها , وعينه عليها , وهو يقدر لها أمرها تقديرا .
والإميبا كائن حي دقيق الحجم . يعيش في البرك والمستنقعات ,
أو على الأحجار الراسبة في القاع . ولا يرى بالعين إطلاقا .
وهو يرى بالمجاهر , كتلة هلامية , يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات . فعندما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد تستعملها كالأقدام ,
للسير بها إلى المكان المرغوب . ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة .
وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين , وتفرز عليه
عصارة هاضمة , فتتغذى بالمفيد منها ,
أما الباقي فتطرده من جسمها ! وهي تتنفس من كل جسمها
بأخذ الأكسوجين من الماء . .
فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقا بالعين , يعيش ويتحرك , ويتغذى
ويتنفس , ويخرج فضلاته !
فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين , ليكون كل قسم حيوانا جديدا . .
***
وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة
عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير
والتقدير فيها لا يقل ظهورا وبروزا عنه في تلك الأحياء .
(وخلق كل شيء فقدره تقديرا) . .
على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير .
إن حركة هذا الكون كله بأحداثها ووقائعها وتياراتها
مقدرة مدبرة صغيرها وكبيرها .
***
كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد , ككل نفس يخرج من صدر !
إن هذا النفس مقدر في وقته , مقدر في مكانه , مقدر في ظروفه كلها ,
مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون , محسوب حسابه في التناسق الكوني ,
كالأحداث العظام الضخام !
وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء . .
إنه هو الآخر قائم هناك بقدر . وهو يؤدي وظيفة ترتبط
بالوجود كله منذ كان !
وهذه النملة الساربة وهذه الهباءة الطائرة ،
وهذه الخلية السابحة في الماء . كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء !
تقدير في الزمان , وتقدير في المكان , وتقدير في المقدار ,
وتقدير في الصورة . وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال .
***
من ذا الذي يذكر مثلا أن زواج يعقوب من امرأة أخرى
هي أم يوسف وبنيامين أخيه , لم يكن حادثا شخصيا فرديا . .
إنما كان قدرا مقدورا ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه ,
فيأخذوه فيلقوه في الجب - ولا يقتلوه - لتلتقطه السيارة .
لتبيعه . في مصر . لينشأ في قصر العزيز .
لتراوده امرأة العزيز عن نفسه . ليستعلي على الإغراء .
ليلقى في السجن . .
لماذا ?...
ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك . ليفسر لهما الرؤيا . .
لماذا ?... إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب ،
ويقف ناس من الناس يسألون : لماذا ? لماذا يا رب يتعذب يوسف ?
لماذا يا رب يتعذب يعقوب ? لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن ?
ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم , المنوع الأشكال ? لماذا ?
. ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب ,
لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة
في سني القحط السبعة ! ثم ماذا ? ثم ليستقدم أبويه وإخوته .
ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل . ليضطهدهم فرعون .
لينشأ من بينهم موسى - وما صاحب حياته من :
تقدير وتدبير - لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات
يعيش العالم فيها اليوم بكليته ! وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه !!
***
ومن ذا الذي يذكر مثلا أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية
لم يكن حادثا شخصيا فرديا . إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم
من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر ,
ليأخذ منها هاجر , لتلد له إسماعيل . ليسكن إسماعيل وأمه
عند البيت المحرم . لينشأ محمد [ صلى الله عليه وسلم ]
من نسل إبراهيم - عليه السلام - في هذه الجزيرة . أصلح مكان
على وجه الأرض لرسالة الإسلام . .
ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام !
إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد . لكل حادث . ولكل نشأة .
ولكل مصير . ووراء كل نقطة , وكل خطوة , وكل تبديل أو تغيير .
إنه قدر الله النافذ , الشامل , الدقيق , العميق .
وأحيانا يرى البشر طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد .
وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير ,
فتخفى عليهم حكمة التدبير . فيستعجلون ويقترحون
وقد يسخطون . أو يتطاولون !
والله يعلمهم في هذا القرآن :
أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر , وتطمئن قلوبهم وتستريح
ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق ,
وفي أنس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق . .
***
ومع التقدير والتدبير , القدرة التي تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات:
( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر). .
فهي إشارة واحدة . أو كلمة واحدة
يتم بها كل أمر: الجليل والصغير سواء .
وليس هنالك جليل ولا صغير . إنما ذلك تقدير البشر للأشياء .
وليس هنالك زمن ولا ما يعادل لمح البصر .
إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر .
فالزمن إن هو إلا تصور بشري ناشيء من دورة أرضهم الصغيرة ,
ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة .
واحدة تنشئ هذا الوجود الهائل . وواحدة تبدل فيه وتغير .
وواحدة تذهب به كما يشاء الله . وواحدة تحيي كل حي .
وواحدة تذهب به هنا وهناك . وواحدة ترده إلى الموت ،
وواحدة تبعثه في صورة من الصور . وواحدة تبعث الخلائق جميعا .
وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب .
- - --
كتبها بو عبدالرحمن