ووصل في إدراك التناسق بين عدد كبير من الضوابط
التي تضبط الحياة ; وتنسق بين الأحياء والظروف المحيطة بها ; وبين بعضها وبعض ..
إلى حد يعطي فكرة عن تلك الحقيقة العميقة الكبيرة التي تشير إليها الآية .
فالنسبة بين عوامل الحياة والبقاء وعوامل الموت والفناء في البيئة
وفي طبيعة الأحياء محفوظة دائما بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها وامتدادها .
وفي الوقت ذاته يحد من انتشارها إلى الحد الذي لا تكفي الظروف
المهيأة للأحياء , في وقت ما , لإعالتهم وإعاشتهم !
ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شيء من هذا التوازن
في علاقات بعض الأحياء ببعض .
إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى
إلى التناسق في بناء الكون , وفي ظروف الأرض . .
***
"إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد ,
لأنها قليلة البيض , قليلة التفريخ , فضلا على أنها لا تعيش
إلا في مواطن خاصة محدودة . وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار .
ولو كانت مع عمرها الطويل , كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن
لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها .
أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها
من بني الإنسان , وللقيام بأدوارها الأخرى , ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض !
بغاث الطير أكثرها فراخا *** وأم الصقر مقلات نزور
وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا ,
كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث !
والذبابة تبيض ملايين البويضات . ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين .
ولو كانت تعيش بضعة أعوام , تبيض فيها بهذه النسبة
لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه ; ولغدت حياة كثير من الأجناس
وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض .
ولكن عجلة التوازن التي لا تختل , في يد القدرة التي تدبر هذا الكون ,
وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه !
والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عددا , وأسرعها تكاثرا ,
وأشدها فتكا .. هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرا .
تموت بملايين الملايين من البرد , ومن الحر , ومن الضوء ,
ومن أحماض المعدات , ومن أمصال الدم , ومن عوامل أخرى كثيرة .
ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان .
ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء !
وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه
ويغالب به خطر الفناء . وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع . فكثرة العدد سلاح .
وقوة البطش سلاح . وبينهما ألوان وأنواع . .
الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها .
والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل , ومن ثم يندر فيها السام !
والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة ,
تصبها على كل من يلمسها , وقاية من الأعداء !
والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز ,
والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس !
وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء .
***