ثم ذكر الله جل وعلا ما يكون يوم القيامة وذكر تبارك وتعالى عدة نداءات:
النداء الأول: نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار .
والنداء الثاني: نداء أصحاب الأعراف لأصحاب الجنة.
النداء الثالث : ونداء أصحاب الأعراف لأصحاب النار.
النداء الرابع : ونداء أصحاب النار لأصحاب الجنة.
في هذه السورة التي سميت بسورة الأعراف لأن الله ذكر فيها الأعراف . ولم يرد ذكر أصحاب الأعراف في القرآن إلا في هذه السورة.
قال الله جل وعلا : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ*الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} هذا النداء الأول يكون من أصحاب الجنة إلى أصحاب النار أن أصحاب الجنة يفتخرون على أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم الله من النعيم حق، فيسألونهم هل وجدتم ما وعدكم الله من الجحيم حق؟ فيقولون نعم، فيستمع الفريقان بعد ذلك إلى مؤذن يؤذن يقول: {أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
.
قال طاووس بن كيسان رحمه الله لهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف قال: " يا أمير المؤمنين اذكر يوم الأذان "، قال : " وما يوم الأذان؟ " قال : " إن الله يقول {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} " فصعق هشام رحمه الله فقال طاووس بن كيسان : " سبحان الله هذا ذل الصفة فكيف بذل المعاينة! " أي صعقت وأنا مجرد وصفت لك اليوم فكيف لو عاينته ورأيته بعينيك! .
ثم قال الله جل وعلا: {وَبَيْنَهُمَا} أي بين الجنة والنار {حِجَابٌ} هذا الحجاب جاء مفسرا في سورة الحديد:{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} .
قال الله جل وعلا :{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ} مكان مرتفع {رِجَالٌ} الله أعلم بهم قيل إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وهذا قول حذيفة واختاره أكثر المفسرين وقيل إنهم أنبياء وقيل إنهم ملائكة ولا يوجد نص نجزم به ونفيء إليه .
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} يعني يعرفون أهل الجنة ويعرفون أهل النار بسيماهم أي بعلاماتهم فإن الله قال عن أهل الجنة : {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} وقال عن أهل الكفر: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } أي أعينهم زرقا فيعرف المجرمون بزرقة أعينهم ويعرف المؤمنون جعلني الله وإياكم منهم بما عليهم من نظرة نعيم .
هؤلاء أصحاب الأعراف عندما يقفون عليها معهم نور هذا النور يجعلهم يطمعون أن يدخلوا الجنة فيقفون حكما بين الفريقين قال الله جل وعلا : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} المنادي أصحاب الأعراف والمنادى أصحاب الجنة {أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} وتقف ثم ينقطع الكلام {لَمْ يَدْخُلُوهَا} والمعنى أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها في أظهر الأقوال {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي ويطمعون في دخولها وهذا الطمع الرغبة في دخولها حث عليها أنهم ما زالوا يملكون النور ولم ينقطع. ثم بعد أن يرون أهل الجنة تصرف أبصارهم من غير إرادة منهم إلى أهل النار قال الله جل وعلا :{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إذا رأوا أهل النار وما هم فيه من عظيم الجحيم والنكال والحميم تعوذوا بالله واستجاروا به {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
ثم قال الله جل وعلا :{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي رجالا كانوا في الدنيا على الكفر يصدون عن سبيل الله {قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ*أَهَؤُلاء} أي الضعفاء الفقراء المساكين { أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ} كنتم تقسمون في الدنيا أنهم لن ينالوا رحمة ولا مغفرة! { أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
ثم قال الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء} جعلنا الله وإياك في هذه الحالة ممن ينادى لا ممن ينادي، فإن الله جل وعلا بقدرته يجعل لأهل النار اطلاعا على أهل الجنة فإذا رأوها أحوج ما يكون إليه أهل النار الماء قال الله جل وعلا:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ} فيجيبهم أهل الإيمان {قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا} الماء والرزق { إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} فلا يوجد شيء يحتاجه أهل النار أول أمر أكثر من احتياجهم إلى الماء لأنهم إذا استسقوا في النار يسقون ماء حميما كما قال الله {فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} ، فقد أخذ العلماء من هذه الآية أن من أفضل القربات إلى الله سقي الماء، وقد قال العلماء إنه ثبت في الصحيح:( أن الله جل وعلا غفر لرجل لأنه سقى كلبا ) فكيف بمن سقى مؤمنا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ولما قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "يا ابن عم رسول ما أفضل الصدقة ؟ قال : أن تسقي الماء " .
أين أنت من قول الله جل وعلا :{أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}ثم ذكر الله بعضا من نعوت الكافرين قال: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} وليس الله جل وعلا ينسى أبدا {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} ، ولكن هذا في لغة العرب يسمى المشاكلة في الكلام وإنما يتركهم الله جل وعلا من غير نصرة من غير ظهرة ؟؟؟؟
من غير معين، حتى يتساقطوا في جهنم.ثم بين الله جل وعلا عظيم كتابه قال سبحانه : {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ*هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي في الدنيا {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} .
فيتمنون أمرين: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} وهذه قطعها الله بقوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وطلبوا أمرا ثانيا :{أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وهذه قطعها الله جل وعلا عنهم أن الله لن يخرجهم من النار { أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} .
فلما ذكر الله تبارك وتعالى حال الفريقين وذكر الحالة الثالثة وهي حال أهل الأعراف عرف الله جل وعلا بذاته العلية، والقرآن أيها المؤمن كله فاضل لكن آياته فيها فاضل وفيها مفضول، أما كونه فاضل فلأن القرآن كله من عند الله وأما كونه فاضل ومفضول فإن من آيات الله ما تتكلم عن الله فجمعت الفضل من وجهتين:
الوجهة الأولى: أنها كلام الله .
والوجهة الثانية: أنها تتحدث عن الله
وليس هناك أحد أعلم بالله من الله ولذلك من أراد أن يرقق قلبه وتدمع عينه فليقرأ ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية كخواتم سورة الحشر وأوائل سورة الحديد وهذه الآيات التي في الأعراف وفي الفرقان يتكلم الرب جل وعلا عن ذاته العلية أو آية الكرسي، فكل آية تحدث الله فيها عن ذاته العلية فإن الله جل وعلا لا أحد أعلم به منه قال الله جل وعلا : {و َلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } وقال : {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } .
فالآيات التي يتحدث فيها الرب جل وعلا عن ذاته العلية هي أعظم آيات القرآن قدرا لأنها جمعت المجد من طرفيه: كونها من الله وكونها تتحدث عنه جل جلاله.
قال الله جل وعلا : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ*ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
هذه مجمل ما تكلم الله جل وعلا به عنه عن ذاته العلية .
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين