وقد قلنا في دروس سابقة إن العرب تسمي الجن خمسة أسماء ـ وأنا مضطر للكلام العلمي لأني قلت الكلام في مقامه الأول علمي ـ :
يسمون الجني العادي جني فإذا كان مما يسكن البيوت يسمونه عُمَّار وإذا كان مما يتعرض للصبيان يسمونها أرواح فإذا كان فيه شيء من التمرد يسمونه شيطان فإذا ازداد تمرده يسمونه عفريت. ذكر هذا الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
{إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }يستنبط من هذه الآية أن عقد الولاية ما بين الإنس والشيطان قائم على عدم الإيمان لأن الله جل وعلا قال : {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} . فعدم الإيمان بالله عقد ما بين الإنسي والشيطان .
ثم قال تبارك وتعالى : {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، حتى قال الله جل وعلا بعد ذلك بآيات: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} كذبوا بآياتنا أي لم يصدقوا الرسل واستكبروا عنها أي لم ينقادوا لها، كذبوا بالآيات عدم التصديق واستكبروا عنها أي عدم الانقياد {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} .
الإنسان تخرج روحه من جسده بعد أن تكون هذه الروح قد ألفت الجسد فإذا خرجت كانت روحا مؤمنة تفتح لها أبواب السماء وإن كانت روحا كافرة أو منافقة أغلقت في وجهها أبواب السماء عياذا بالله، فالله جل وعلا يقول هنا:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} هذا جزاء الأول وهذا قبل البعث ثم قال:{وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} يعني بعد البعث، على هذا الآية نص على أن الكافر لا يدخل الجنة {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} الجمل الحيوان المعروف وسم الخياط الخرم الذي في الإبرة فالخرم الذي في الإبرة من أضيق الأشياء والجمل من أعظم المخلوقات جسما والمقصود من الآية تعليق على الاستحالة فكما أنه محال أن يدخل الجمل بهذه الخلقة العظيمة في سم الخياط فمحال أن يدخل الكافر الجنة {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ولن يلج الجمل في سم الخياط {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ*لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} .
لما ذكر الله حال أهل الكفر ذكر حال أهل الإيمان والأصل في القرآن أنه يبدأ بالكفار ويختم بالمؤمنين قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} جعلنا الله وإياكم منهم { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، ذكر الله جل وعلا هنا {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}
وقد استنبط العلماء من هذه الآية وأمثالها قاعدة فقهية وهذه القاعدة تقول:
" لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة " . فمثلا الله جل وعلا جعل من واجبات الوضوء مثلا غسل اليدين إلى المرفقين فلو أن أحد الناس من حادث مثلا قطعت يده ماذا نصنع بواجب الوضوء؟ يسقط عنه للعجز.
لا يوجد يد أصلا وقد يكون العجز أقل من ذلك: الإنسان يجب عليه أولا أن يتوضأ بالماء فإذا عجز عن الوصول للماء أو أضره الماء رغم وجوده هذا الواجب يسقط وينتقل إلى مسألة أخرى هي التيمم حتى قد يصل أحيانا أنه يصلي بدون وضوء وبدون تيمم إذا كان عاجزا فلا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة، وهذا معنى قول الله جل وعلا : {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
ثم قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
الناس يبقون بشر مهما بلغوا في الارتفاع في الطاعات لا يخرجهم عن كونهم بشر والنبي صلى الله عليه وسلم في الذروة من البشر وهو يقول عليه الصلاة والسلام : (أنا أغضب كما تغضبون) ولما قيل له إن إحدى أمهات المؤمنين حاضت في الحج غضب وقال : (حلقى قعرى) تغير كلامه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر نقل عنه أنه يغضب وعمر كل الناس يغضبون، فالإنسان مهما بلغ يبقى بشرا إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم وغيره من الناس غير معصوم على هذا أحيانا يبقى في الصدر شيء ولو خفيف تبقى مؤمن تدخل الجنة لكن فيه في الصدر بينك وبين زيد شيء، الله من إكرامه لأهل الجنة قبل أن يدخلوا الجنة وهم ماضون ذاهبون إلى الجنة يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار هذا الغل الباقي القليل الذي باقي في القلوب ينزعه الله منهم قبل أن يدخلوا الجنة قال صلى الله عليه وسلم : ( يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بينهم مظالم كانت بينهم في الدنيا).
قال علي رضي الله عنه أمير المؤمنين حصل بينه وبين الزبير بن العوام رضي الله عنه شيء من سوء التفاهم وكادا يقتتلان في المعركة فذكر علي الزبير بقول للنبي صلى الله عليه وسلم فترك الزبير أرض المعركة قناعة منه بقول رسول صلى الله عليه وسلم فتبعه رجل يقال له ابن جرموز فقتله، وممن نازع عليا طلحة بن عبيد الله صحابي جليل أحد العشرة المبشرين وقد أحنى ظهره يوم أحد حتى يرقى النبي عليه الصلاة والسلام على ظهره فقال عليه الصلاة والسلام : (أوجب طلحة) يعني وجبت له الجنة ومع ذلك كان هناك سوء تفاهم بسيط ما بين طلحة والزبير وعلي كل منهم يرى الصواب معه وكلهم في المحل الأعلى من الصحابة، قال علي رضي الله عنه: قال : "إني لأرجو الله أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم "{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} " .
فالكمال عزيز والصحابة رضي الله عنهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم والله رضي عنهم وشهد برضاه عنهم في كتابه ولا ينبغي لعاقل أن يدخل فيما كان بينهم كلهم مجتهد رضي الله عنهم وأرضاهم نسأل الله أن يرزقنا جوارهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ}هذا الكلام يقوله أهل الجنة اعترافا منهم بأن الهداية من الله ـ جعلني الله وإياكم برحمته ممن يقولها في الجنة ـ ، وهذا يؤكد على أمر عظيم على أن من يطلب الهداية فليطلبها من الله ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) .
ولا يشمت الإنسان بأحد خوفا من أن ينتكس كما انتكس غيره وإنما المؤمن يسأل الله السلامة ولا يشمت بأحد ويسأل الله غفران الذنوب وستر العيوب ورحمته حتى نلقاه.
{وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ} أي هؤلاء المؤمنين نودوا {أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
يوجد باء عوض ويوجد باء سبب , يعني باء تختص بالعوض وباء تختص بالسبب، شف هذا قلم فلو ذهبت إلى المتجر وسألت صاحب المتجر: " بكم هذا القلم؟ " قال : " بريال " فأعطيته ريالا فأعطاك القلم، فهذا الريال عوض عن القلم بمعنى مكافئ له، ولو هذا القلم أحسن كان أصبح الريال أكثر من ريال يصبح مثلا بعشرة، فهذه باء عوض.
في باء أيها الأحبة اسمها باء السبب . تأتي لصاحب متجر فيسألك: " من أين أنت؟ " فتقول له مثلا : " من جدة " ويكون هو قد سكن جدة قديما فتسأله : " من أي حي " يقول " من النزلة " يكون هو ساكن النزلة قديما فتطلب ماء فيقول هذا الماء خذه لأننا أنا وأنت كنا نسكن في حي واحد، فسكنك الحي الذي سكن فيه صاحب المتجر عوض عن الماء أو سبب في الحصول على الماء؟ سبب في الحصول على الماء .
تعفو عن إنسان لأنه صاحب أخيك يحصل لك سيارة يأتي إنسان يصدم سيارتك فتنزل غاضبا فعندما ترى من صدمك تعرف أنه صاحب لأخيك فتعفو عنه أنت عفوت عنه لا لأنه أعطاك عوض بل لأن صداقته لأخيك سبب في عفوك عنه.
طيب يقول الله جل وعلا : {أُورِثْتُمُوهَا}أي الجنة {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} هذه الباء عوض أو سبب؟
هذه الباء باء أعمالكم سبب في دخول الجنة، وإلا الأعمال لا يمكن أن تكون عوضا عن ماذا؟ عن الجنة لأن الجنة أكبر من أعمالنا .
لكن قال بعض العلماء من السلف كلمة جميلة في هذا الباب قالوا: "إن المؤمنين ينجون من النار بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويرثون منازل غيرهم بأعمالهم الصالحة " {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
.