قال الله جل وعلا كذلك في هذه الآيات:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} ، هذه تكلمنا عنها في تفسير سورة البقرة وأنا أتكلم إجمالا:
خلق الله جل وعلا أبانا آدم عليه السلام من قبضة قبضت من الأرض وجاء في بعض الآثار أن الله بعث ملكا يقبض تلك القبضة فلما وصل إلى الأرض قالت له الأرض : " أعوذ بالله منك " فرجع إلى ربه فسأله الله وهو أعلم قال : " يا رب استعاذت بك فأعذتها " فبعث الله وهو أعلم ملكا آخر غيره فقالت له الأرض مثل ما قالت لصاحبه فرجع إلى ربه فقال له مثل ما قال الأول فبعث الله ملكا ثالثا فلما جاء أن يقبض من الأرض قالت الأرض كما قالت لصاحبيه " أعوذ بالله منك " قال : " وأنا أعوذ بالله أن لا أنفذ أمره " ثم أخذ قبضة من الأرض هذه القبضة جاءت مجتمعه مخلوطة ممزوجة فلما رفعت إلى ربنا جل جلاله خلطت بماء فأضحت طينا ثم تركت فترة فأضحت صلصالا من فخار بحيث أنه لو قرع يحدث صوتا على هذا هذه المراحل الثلاث كلها ذكرها الله جل وعلا في كتابه فقال جل ذكره : { خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ} وقال: {خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ} وقال جل وعلا : { مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} لأن هذه المراحل الثلاث كلها مر بها خلق أبينا آدم.
ثم قال الله جل وعلا هنا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} لكن الله لم يقل في الأعراف هل صور آدم على هيئة حسنة أم على هيئة غير حسنة فأين أثبت الله حسن خلق آدم؟ في سورة التين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. ولهذا قال بعض الفقهاء لو أن رجلا قال لامرأته: " أنت طالق إن لم يكن وجهك أحسن من القمر " لا تطلق، ولو كانت من أقبح الناس وجها لأن الله جل وعلا يقول : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} .
ثم وقع من أبينا آدم عليه الصلاة والسلام المعصية بالأكل من الشجرة وأهبط إلى الأرض فلما أهبط إلى الأرض جاءت النداءات الربانية الإلهية لبني آدم فناداهم الله في الأعراف بأربع نداءات:
قال في الأولى جل وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} ، هذه الآية مسوقة في سياق الامتنان واللباس هو اللباس الضروري الذي تستر به العورة، والريش هو اللباس الزائد عن الضروري التي يتجمل به الإنسان .
{قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} أي عوراتكم، وسميت العورة سوءة لأن العاقل يسوؤه أن تظهر عورته للناس، فالله يقول في باب الامتنان على عباده: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} لباسا ضروريا ولباسا زائدا تتزينون به .
فلما ذكر الله اللباس الحسي ذكر اللباس المعنوي فقال جل وعلا : {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } أي خير من كل شيء خير من كل لباس .
ولباس التقوى: أن يكون الإنسان مكتسيا بتقوى الرب تبارك وتعالى في قلبه يخشى الله تبارك وتعالى ويخافه يجتنب نواهيه ويأتي أوامره هذا هو المؤمن حقا الذي ارتدى خير لباس:
ليس الجمـال بمئزر ***فاعلم وإن رديت بردا
إن الجمال معادن ومنـا***ـاقب أورثن مجدا
فاللباس الحسي يبلى يبيد ولا ينفعك في الآخرة تستر به عورتك في الدنيا أما لباس التقوى هو الذي عليه معيار العقاب والحساب والثواب يوم القيامة.
ثم قال الله جل وعلا : {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} ، سنتكلم كلام علمي وكلام وعظي حول هذه الآية.
{ يَا بَنِي آدَمَ} هذا خطاب ويسمى نداء علامة فمتى يسمى النداء نداء كرامة؟ إذا قال الله في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا نداء كرامة، وإذا قال { يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أو {يَا بَنِي آدَمَ } هذا نداء علامة لأنه يشترك فيه المؤمن والكافر وإنما علموا بنسبتهم إلى أبيهم.
{يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} وهو العدو الأول {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} الأبوان هنا آدم وحواء وإنما سميا أبوان رغم أن حواء امرأة من باب التغليب وقد قلنا في دروس عدة مكررة إن العرب إذا تكلمت عن اثنين وأرادت أن تثني تغلب لكن معيار التغليب يختلف من مثنى إلى مثنى، فقالوا في الأبوين الأبوان غلبوا الرجل على المرأة لأن الرجل أفضل من المرأة عموما، وقالوا في المدينة ومكة المكتان لأن مكة أفضل عند الجمهور ، وقالوا في الحسن والحسين الحسنان لأن الحسن أكبر، وقالوا في الشمس والقمر القمران القمر مذكر والشمس مؤنث:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ***ولا التذكير فخر للهلال
فلو كل النساء كمن ذكرنا *** لفضلت النساء على الرجال
لأن القمر مذكر قالوا القمران.
فهنا قول الله جل وعلا : {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} لما ذاقا من الشجرة حصل أن بدت السوءتان لآدم وحواء فعلما أنهما وقعا في أمر عظيم.
من هنا تعلم أن هذا القرآن أنزله الله هداية للناس فأول طريق للمعاصي نزع الحياء من قلب المؤمن، أول طريق للمعصية نزع الحياء من قلب المؤمن فأول ما أراده إبليس حتى يغوي آدم وزوجته وذريته لجأ إلى أول قضية أن يريهما عوراتهما فإذا كشفت السوءتان في مكان ظاهر واستمرأ النظر إليها تصبح النفس والعياذ بالله هين لين عليها ما ترى فتستمرئ كل الفواحش فتنساق بعد ذلك إلى المعاصي من غير أن تعلم .
ولهذا تعلم أن ما صنعه الشيطان قديما يصنعه شياطين الإنس حديثا، فأكثر ما يسعى إليه القائمون على القنوات الفاجرة أن يبثوا أشياء تكشف من خلالها العورات حتى تعتاد الأسرة المسلمة أبا وأما وأحفادا وأبناء أن ينظروا إلى تلك العورات وأن يصبح أمرا بدهيا مستساغا لدى الأسرة ككل أن تنظر إلى الفواحش والإغراءات وما يكون من اتصالات محرمة وكشف العورات إما عن سبيل رقص أو سبيل غناء أو سبيل تمثيل أو غير ذلك فتصبح الأسرة والعياذ بالله بعد ذلك أي معصية تهون وتسهل على الجميع ويصبح أمر الله جل وعلا عياذا بالله هينا على تلك القلوب، فمن أراد الله جل وعلا أن يعصمه أول ما يعظم فيه يعظم فيه مسألة الحياء في قلبه والإنسان إذا جبل على الحياء يقول عليه الصلاة والسلام : (الحياء لا يأتي إلا بخير) .
وقد ترى أنت بعض الناس على مسألة تستغرب كيف يصنعها والفرق بينك وبينه ليس العلم فهو يعلم وأنت تعلم لكن الفرق بينك وبينه أن مسألة الحياء شجرة نابتة في قلبك والحياء في قلبه غير موجود فلما ذهب الحياء من نفسه من قلبه سهل عليه أن يأتي المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم يستره ربه ـ أي على معصية ـ فإذا أصبح قال يا فلان أما علمت أن البارحة فعلت كذا وكذا وكذا!) يقول صلى الله عليه وسلم : (يمسي يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عنه) نعوذ بالله من فجأة نقمته وزوال نعمته.
وهذا الذي يصل إلى هذه المرحلة طبع على قلبه تماما كمن يذهب إلى حانات الغرب وبارات الشرق فيقع في المعاصي والفجور وبنات الزنا وأشباه ذلك ثم والعياذ بالله مع أن الله قد ستر عليه يصور نفسه ثم يأتي بتلك الصور ويجمع أقرانه وخلطاءه وأمثاله ليعرض عليهم تلك الصور ويريهم إياها هذا قد يصل إلى حد الكفر، لأنه في الغالب لا يصنع امرؤ مثل هذا إلا وهو يستحل ما حرم الله وإن كنا لا نكفر أحدا بعينه لكن نقول: إن هذا من أعظم الدلائل على ذهاب الخشية من القلب واستيلاء الشيطان على تلك القلوب يقول صلى الله عليه وسلم : (من ابتلي من هذه القاذورات بشي فليستتر بستر الله عليه) . والمؤمن يسأل الله دائما الستر والعافية ومحو الذنوب في الدنيا والآخرة.
لكن المقصود من الآية : أن نبين أن من أعظم طرائق إبليس لإغواء الناس أن ينزع عنهم لباسهما كما قال الله جل وعلا : {لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فالله كتب أن الإنس لا ترى الجن والجن ترى الإنس .