فسر الحرج بأحد تفسيرين:
التفسير الأول : فسر بالشك، فيصبح معنى الآية هذا كتاب من الله فلا يكن في قلبك شك منه، وإذا قلنا بهذا التفسير يصبح هذه الآية لها قرائن كقوله تبارك وتعالى :{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ}.
التفسير الثاني : اختار جمهور العلماء على أن المراد بالحرج هنا الضيق، فيصبح معنى الآية فلا يكن في صدرك ضيق منه، هذا الضيق لا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جُبل على ضيقة الصدر هذا محال لأن الله هيأه صلى الله عليه وسلم لأن يختم به الله النبوات ويتم به الرسالات وليس في القرآن أصلا ما يدعو للضيق في المؤمنين إذن ينجم الضيق من أن هذا القرآن آياته واضحة ظاهرة بينة لا تحتاج إلى دليل لا تحتاج إلى إثبات أنها من عند الله فالعرب أفصح البلغاء وأبلغ الفصحاء ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن . ينجم الضيق مثالا كالطالب الذي عندك تعلمه فأنت لا يصيبك الضيق ولا الحرج ولا الغضب على طالب لم يفقه مسألة صعبة وإنما يصيبك الحرج والضيق على الطالب الذي لا يفهم المسألة الواضحة، المسألة الواضحة التي بينة ظاهرة لا تحتاج إلى علم فيأتي إنسان لا يفقهها يصيبك ضيق حرج في صدرك فالضيق الذي يصيبه صلى الله عليه وسلم من أن دلائل نبوته قاهرة ومعجزاته ظاهرة ومع ذلك لم يؤمنوا به! فنجم عن هذا ضيق في صدره، فالله يقول له فليكن صدرك منشرحا بهذا القرآن لأنه أجل كتاب وأعظم منزل به الهداية والرحمة لكل أحد أراد أن ينتفع به وإن لم ينتفع به قومك وكذبوه وردوه عليك.
هذا { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } ثم ذكر العلة من إنزاله :
فاللام هنا لام التعليل{ لِتُنذِرَ} ولذلك جاء الفعل بعدها منصوبا{ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } لم يقل الله من المنذَر بالقرآن قال:{لِتُنذِرَ بِهِ } لكن لما ذكر الذكرى قال {وَذِكْرَى} لمن { لِلْمُؤْمِنِينَ } .
إذن من المنذَر بالقرآن؟ أعظم قواعد العلم أن القرآن يفسر بالقرآن والله يقول :{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} ، إذن المحذوف هنا هو الموجود في سورة مريم، لتنذر به قوم لدا، يعني الكفار .
{ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } والإنذار في اللغة هو الإعلام المقرون بالتهديد، على هذا تنجم قاعدة أن كل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذار،{ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فإن قال قائل إن الله قال في آية أخرى أنه ينذر بالقرآن المؤمنين قال جل وعلا: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} فيجاب عن هذا بأن الإنذار على قسمين:
إنذار عام وإنذار انتفاع، الإنذار العام ينصرف للكفار أما إنذار الانتفاع ينصرف إلى المؤمنين.
{ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} هذه الآية الأولى ثم قال الله جل وعلا:
{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}فأخبر الله جل وعلا أن اثنين يُسألان يوم القيامة : المرسلون والمرسل إليهم، لكن الله لم يقل هنا ماذا يسأل هؤلاء ولا ماذا يسأل أولئك، فأين قال الله وأنا قلت أعانكم الله أن تستحضروا القرآن هذا علم التفسير أين قال الله ماذا يسأل المرسلون وماذا يسأل من أرسل إليهم؟ هنا الله يقول : {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} لكنه لم يقل ماذا يسألون، أما الجواب :
فإن الله قال عن الأول :{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} قال عنها: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، فيكون السؤال للأمم ماهو سؤالهم؟{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} هذا من تفسير القرآن بالقرآن. قال الله في القصص: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} هذا حل الإشكال الأول{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ}.
يبقى حل الإشكال الثاني قال الله جل وعلا : {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} ماذا يسأل المرسلون؟ قال الله في المائدة: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ}، فالإشكال الإجمال الذي في سورة الأعراف فصل في موضعين: فصل في القصص وفصل في المائدة وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ*وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } :
الله جل وعلا حكم عدل ويوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية لم يعص الله جل وعلا فيها قط وليس في تلك الأرض معلم لأحد، الآن أنت تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلتقي به في مكان ما فتجعل له أمارة مثلا : مستشفى , إشارة , علامة , دار , مبنى , محل تجاري بينك وبينه تذهب إليه هذا المكان المعلم هو سبب التقائكما .
يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد ليس فيها شيء بارز تجتمع عنده الناس والناس يحشرون حفاة عراة غرلا بهما ليس معهم شيء إذا كان في الدنيا فيه ملك صوري تملكه بيديك ثيابك دابتك سيارتك في يوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئا، الله يقول في القرآن: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}والفراش يموج بعضه في بعض ومعنى الآيتين الجمع بينهما أن الناس عندما يخرجون يخرجون أول الأمر كالفراش لا يعرفون أين يذهبون! فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي قال الله جل وعلا : {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} انتظموا خلف إسرافيل فأصبحوا انتقلوا من حالة الفراش إلى حالة الجراد هذا كله يكون يوم القيامة يوم القيامة له أهوال عظيمة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لابن عباس: "مع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهبا لافتديت به من هو المطلع".
مما يكون يوم القيامة الميزان، وأهل السنة يقولون سلك الله بنا وبكم سبيلهم يقولون: إنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان، والله جل وعلا يقول {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، والله يقول هنا{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} القصد بكلمة الحق أنه لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق ميزان حق يكفي أن الله جل وعلا قائم عليه فهو تبارك وتعالى أعدل الحاكمين وأحكم العادلين .
على هذا اختلف العلماء ما الذي يوزن؟ مع اتفاقهم جملة أهل السنة على أنه يوجد ميزان له كفتان، على أقوال أشهرها:
القول الأول : أن الذي يوزن العمل نفسه، والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان) موضع الشاهد أنه قال أن : (الحمد لله تملأ الميزان) فهذا معنى إن العمل نفسه يوزن، وقال صلى الله عليه وسلم :(اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غايتان أو فرقان طير صواف تحاجان عن أصحابها) فهذا من من أدلة من قال إن الذي يوزن العمل.
القول الثاني : إن الذي يوزن صحائف العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح : (إن الله سيخلص رجلا من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول له ربه: أتنكر مما رأيت شيئا ؟ فيقول لا يارب فيقول الله جل وعلا له أظلمك كتبتي الحافظون فيقول: لا يا رب، فيقول الله:إن لك عندنا بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ،فيقول يارب وماتغني هذه البطاقة مع هذه السجلات: فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة" قال صلى الله عليه وسلم: " فطاشت السجلات ورجحت البطاقة "وعند زيادة عند الترمذي " ولا يثقل مع اسم الله شيء) فهذه أدلة من قال إن الذي يوزن صحائف العمل، والقول الأول أنه يوزن العمل.
القول الثالث: أنه يوزن صاحب العمل وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة –والمقصود الكافر- يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ثم قرأ عليه الصلاة والسلام : {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} هذه أحد أدلة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل، واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رجل عبد الله بن مسعود قال صلى الله عليه وسلم : (أتعجبون من دقة ساقيه فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد) . أي رجلا عبد الله بن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد هذه هي أدلة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل.
قال الحافظ بين كثير رحمه الله تعالى جمعا بين الأدلة :
ولا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة، والأظهر والله تعالى أعلم أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعا بين الأحاديث وجمعا بين الآثار، وهذا هو الذي تستقيم به الآيات والله تعالى أعلم.
{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }فالذي يعنينا هنا كخطاب قرآني أن يعنى الإنسان بأعماله الصالحة وأن يسعى فيما يثقل به الميزان ومن أعظم ما يثقل به الميزان حسن الخلق الذي تتعامل به مع الناس قال عليه الصلاة والسلام : (الدين المعاملة) ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه فضا ولا غليظا في خطابه فليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين ولكن الدين جملة معاملة مع إخوانك المؤمنين مع والديك مع أبنائك مع زوجاتك مع جيرانك مع عامة المسلمين تحب لهم ما تحب لنفسك تؤثرهم على نفسك تقبل اعتذارهم وتقيل عثراتهم وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:( كان خلقه القرآن) ، أي أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه، ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان أو أماكن معينة كالمساجد وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا نكون بها إن شاء الله عباد الله إخوانا كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.