مم تكون الغيبة :
لا تقتصر الغيبة على القول باللسان فقط ، كما يعتقده كثير من الناس ، بل يدخل في ذلك الاستهزاء بالقلب ، أو الحركة بالعين أو الفم أو اليد ، كالسخرية والهمز والغمز واللمز والإشارة والكتابة ، كل ذلك من الغيبة ، وتمثيل الحركات كالمشي متعارجاً كما يمشي من أُغتيب ، وهذا أشد من الغيبة بالقول ، لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الغيبة ، ومن جميع أسباب سخطه وعذابه .
أسباب الغيبة :
هناك عدة أسباب للغيبة ، يجب على كل مسلم عاقل أن يعيها ليجتنبها ، ويحذر خطورتها :
1- الغضب : فيحصل شفاء غيظ المغتاب بذكر مساوئ من يغتابه ، فربما غضب إنسان على آخر غضباً شديداً ، لا يسكن ولا يهدأ إلا بغيبة من أغضبه ، وهذا حرام لا يجوز ، فالغضب منهي عنه ، والغيبة منهي عنها ، فهذا جمع بين محرمين ، وقد قال الله تعالى : " قل موتوا بغيظكم إن عليم بذات الصدور " [ آل عمران 119 ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْصِنِي ، قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " [ أخرجه البخاري ] .
2- الحسد :
وهذا هو الداء العضال ، والمرض البطال ، الذي يصعب علاجه في أزمنة ابتعد أهلها عن دينهم ، وراموا القبلية والعصبية ، ولم يرضوا بقضاء الله وقدره ، فالحسد يقود إلى الغيبة ، ويوقع في الكذب ، بحيث يجمع صاحبه بين الإضرار بنفسه ، والإضرار بالآخرين ، إما عن طريق الغيبة أو غيرها ، وقد جاء الشارع الكريم بتحريم الضرر عموماً ، ففي حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " [ أخرجه ابن ماجة وأحمد ] .
وكثير من الناس لا يتورع عن الحسد ، فربما حسد من يثني عليه الناس ويحبونه ويكرمونه ، فيريد زوال تلك النعمة عن المحسود ، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا بالقدح فيه ، فتراه يصطاد في المياه العكرة ، والأوحال الموبوءة ، والمستنقعات القذرة ، والحسد قد يكون مع الصديق المحسن ، والرفيق الموافق ، ومن تأمل واقع الناس اليوم علم صحة ذلك .
3- مجاملة الأقران والخلان ، وموافقة أهل المجالس :
فربما تعرض الناس في مجلس ما لشخص بالغيبة ، والانتقاص منه ، والحط من مكانته ، فترى ذلك الشخص يشاركهم حديثهم ، ويقع في معصية الله تعالى ، ويتعدى حدوده سبحانه ، مجاملة لحديث الآخرين ، وهذا أمر محرم ، فالواجب في مثل تلك الحالات ، أن ينهى عن المنكر بكل استطاعته ، وإلا خرج من مجلس تدار فيه لحوم البشر النيئة ، قال تعالى : " فلا تقعدوا مهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً " [ النساء 140 ] .
وربما تناول بعض الحاضرين أناساً يعرفونهم أو لا يعرفونهم بالغيبة مجاملة للقاعدين ، فيقع في الغيبة إرضاءً لأصدقائه ، خوفاً من أن يستثقلوه إذا نهاهم عن المنكر ، فيرضي الناس بسخط الله تعالى ، وقد قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " من أرضى الناس بسخط الله ، سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس ، ومن أسخط الناس برضى الله ، رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس " .
4- الكبر والخيلاء والترفع على الناس :
فربما رأى أحدهم في نفسه ما يعجبه ويميزه عن الآخرين ، فيتناول من هم أقل منه مرتبة أو منزلة في الدنيا ، فيغتابهم ويعيبهم ، وهذا حاصل وواقع اليوم ، فبعض المسؤولين والرؤساء ، يزدرون من تحتهم ، ويغتابونهم ويحتقرونهم ، فكان رفعة النفس لا تكون إلا بتنقيص الآخرين .
وإذا رأيتهم مع من هو أكبر منهم منصباً ومنزلة في الدنيا ، وكأنهم نعام دست رؤوسها في التراب ، فسبحان الخالق الوهاب .
ويدخل في هذا الصنف من يتعرض للآخرين بالانتقاص من أقدارهم ومكانتهم ، فيقول : هذا جاهل ، وذاك لم يعرف المقصود من المسألة ، أو ركيك العبارة في كلماته أو ما شابه ذلك ، مما يدل على فهمه ونقص الآخرين ، وهذه غيبة محرمة ، لأن فيها تعرضاً للغير بالإساءة .
5- الخوف من الغير :
وذلك عندما يكون الغير شاهداً على شخص بأعمال قبيحة ، فيلجأ الطرف الأول إلى إلحاق التهم بالآخر فيغتابه ، حتى ينتقصه ويطعن فيه لتسقط شهادته ، ولا يصدقه الناس مع أنه صادق .
6- أن يبرئ المغتاب نفسه من شيء وينسبه إلى غيره ظلماً أو صدقاً :
فيكون قد اغتاب غيره أو بهته حتى يمحو التهمة عن نفسه ، وربما ادعى أن شخصاً مشاركاً له في الفعل ، وهذا من الغيبة ، فمن حق الإنسان أن يبرئ نفسه بما نُسب إليه من غير أن يذكر أن أحداً كان معه ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله .
7- الفكاهة :
وهذه كثير ما تحدث في المجالس ، فيقع أحدهم في أشخاص وينسب إليهم كلاماً يجعلهم سخرية لغيرهم ، لا لشيء ، إلا لإضحاك القوم ، وقتل الوقت ، وهدر الزمن ، ولا ريب أن تلك غيبة معاقب قائلها وسامعها .
8- السخرية والاستهزاء .
[ إحياء علوم الدين 3/190 بتصرف ] .
قال تعالى : " ويل لكل همزة لمزة " [ الهمزة 1 ] .
في هذه الآية الكريمة ، توعد الله تعالى الهماز اللماز ، وهو المغتاب بويل ، وويل هو ودا في جهنم بعيد قعره ، شديد حره ، وقيل أن معنى ويل : الخزي والعذاب والهلكة .
9- ضعف الوازع الإيماني :
مما يجعل المرء يستطيل في أعراض الناس من غير روية ولا هوادة ، جاء في حديث عائشة في قصة الإفك قولها عن زينب بنت جحش أنها قالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، ما علمت إلا خيراً ، تقول عائشةً : " وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله فعصمها الله بالورع " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
قال الفضل بن عياض: أشد الورع في اللسان . وروي مثله عن ابن المبارك .
قال الفقيه السمرقندي : الورع الخالص أن يكف بصره عن الحرام ويكف لسانه عن الكذب والغيبة ، ويكف جميع أعضائه وجوارحه عن الحرام .
أضرار الغيبة :
للغيبة أضرار عديدة نذكر منها ما يلي :
1- صاحب الغيبة يعذب في النار ، ويأكل النتن .
2- ينال عقاب الله تعالى في قبره .
3- الغيبة تُذهب أنوار الإيمان ، وآثار الإسلام .
4- لا يغفر له حتى يعفو عنه المغتاب .
5- الغيبة معولٌ هدام ، وشرٌ مستطير .
6- تؤذي وتضر وتجلب الخصام والنفور .
7- مرض اجتماعي يقطع أواصر المحبة بين المسلمين .
8- دليل على خسة المغتاب ودناءة نفسه . [ نضرة النعيم 11/5177 ] .