الجزء الثاني - قصة من التراث العائلي -
الولي وجدتي
في الحي القديم حيث سكن جدي كان للسادة والأشراف منازل متعددة، لم نكن ننتمي لأي طريقة من الطرق المعروفة لدى البعض، ولكن في آخر الشارع كان هناك بيت واحد فقط عُرف عن أهله اتباعهم لنهج الصوفية، وكان لهم مسجد لجدهم الكبير رحمة الله عليه...
جدي كان لا يحلو له الصلاة إلا في ذلك المسجد، ومن هناك تعرف على العديد من الأصدقاء، ولقد سمح لجدتي أن تتواصل مع تلك العوائل، ومن هناك انتقلت علومهم لبيت جدي رحمة الله عليه.
جدتي أسماء رحمة الله عليها شعرت بميل كبير لمجالسة نساء ذلك المنزل، وكان جدي يسمح لها بالذهاب إليهم متى تشاء لتدينهم، وأيضا لأننا جميعا ننتمي لجذور قبلية واحدة، ولقد تعلمت منهم تلك القصائد المحمدية وبدأت ترددها بصوت شجي هز أركان بيتنا القديم، حتى جاء ذلك اليوم الذي نقلت لنا تلك الموالد إلى بيت العائلة، وتبعتها في ذلك جدتي عائشة رحمة الله عليها، والآن أستطيع أن أقول أن أخر الوارثين لهذا الفن هما والدتي وخالتي، وطبعا هناك أيضا إحدى بنات جداتي ولكنها سلفية كما تقول حتى النخاع، وترفض مجرد الخوض في أي حديث يمت للبدع من قريب أو بعيد.
جاء يوم المولد، وقامت والدتي بتمشيط شعري، وألبستني لبس جميل وجديد، وذهبت بي لبيت جدي، وكنت الوحيدة التي يسمح لها بالجلوس على سرير جدي لأنني هادئة جدا، ولأن ملابسي نظيفة كما تقول جدتي، فهي من النوع الموسوس جدا، وأنا كنت أفرح لأني أحب أنظر لعين جدتي عن قرب، كنت أسرح في عيونها وأقول لعل السر فيهما، لعل العيون تخبرني لماذا هي حظت برؤية الولي ( ع.ج )!!
جاء جميع نساء الحي، وبعض الصديقات من خارج الحي، وبدأت جدتي بقراءة المولد، ونظرت أنا لأمي قائلة:
هل سيحضر الولي اليوم؟
أمي: لا أعلم.
ولماذا لا تعلمين؟
أمي: يا بنتي، الولي يأتي متى يشاء هو لا متى نشاء نحن.
بدأ المولد، وبدأت جدتي تحكي قصة النبي صلى الله عليه وسلم بلحن شجي مؤثر، والحضور يرددوا خلفها بعض المقاطع، وأنا البنوتة الصغيرة كنت أردد خلفهم والكل ينظر إلي متعجب من جلوسي معهم وعدم الذهاب للعب مع باقي البنات، وبالطبع هم لا يعلمون أنني قابعة هنا لأجل اللقاء المنتظر، ليل نهار أحلم متى آراه، ولم أبح لأمي بهذا الأمر، فقط كنت أقول لها هل سيحضر، وطبعا هذه الكلمة ( سيحضر )، هي الكلمة المتداولة بينهم، وكنت أرددها كما سمعتها، ولقد أدهشت الحاضرين لحفظي لبعض المقاطع التي أدركت مكانها من القصيدة، فما أن أنهت جدتي الفقرة الأولى القائلة:
أشرق البدرُ علينا..... فاختفت منه البدورُ
مثلَ حسنكْ مارأينا..... قط يا بدرَ السرورِ
بادرت أنا بذكر المقطع الذي تردده النسوة بعد كلام جدتي ورفعت صوتي بكل براءة قائلة
يا نبي سلام عليك، يا رسول سلام عليك،
يا حبيب سلام عليك، صلوات الله عليك...
يااااااااه والله أيام مضت، عندكم حق أخواتي، ماضي قديم، وبالفعل هي قصة من التراث، ولذا لن تروق لمن لا يحب القديم وخاصة التراث.
واثناء قراءة المولد يتم توزيع القهوة فقط، والحليب بالزعفران واللوز البلدي إذ أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك إلا البلدي، وبالطبع لا يتم توزيع أي حلويات أو مأكولات إحتراما للقراءة، ولكن لا يمكنني وصف الروائح الطيبة التي تطلق من المباخر في ذلك الوقت، العود، والعطر، والفل والريحان و....
أنتهى المولد وقدموا العشاء الطيب وانصرفوا، ولم يبقى إلا افراد العائلة، وبعد نصف ساعة قالت جدتي فاطمة أنها تشعر بصداع، فقامت خالتي لتحضر لها الدواء إلا أن الجدة عائشة قالت لها اجلسي " فالولي سيحضر الآن".
حضر الولي، وسلم علينا ثم قال " لقد أتيت غائرا "!!!!!!!!!!!!!!!!
فقالت جدتي عائشة لأختها: لقد جاء غائرا
وأنا البنوتة الصغيرة التقطت هذه الكلمة ورددتها بيني وبين نفسي ولا أعلم ما يقصد.
(((( هل تعلمون قصده )))
غدا أخبركم إن شاء الله.