كان صلى الله عليه وسلم
أفصح خلق الله ،
وأعذبهم كلاما ،
وأسرعهم أداء ،
وأحلاهم منطقا ،
حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح ،
ويشهد له بذلك أعداؤه .
وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ،
ليس بهذ مسرع لا يحفظ ،
ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام ،
بل هديه فيه أكمل الهدي ،
قالت عائشة :
ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ،
ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه .
وكان كثيرا ما يعيد الكلام ثلاثا ليعقل عنه ،
وكان إذا سلم سلم ثلاثا .
وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ،
يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ،
ويتكلم بجوامع الكلام ،
فصل لا فضول ولا تقصير ،
وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه ،
ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ،
وإذا كره الشيء عرف في وجهه ،
ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا .
وكان جل ضحكه التبسم ،
بل كله التبسم ، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه .
وكان يضحك مما يضحك منه ،
وهو مما يتعجب من مثله ويستغرب وقوعه ويستندر .
وللضحك أسباب عديدة هذا أحدها .
والثاني : ضحك الفرح ، وهو أن [ ص: 176 ] يرى ما يسره أو يباشره .
والثالث : ضحك الغضب ، وهو كثيرا ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه ، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب ، وشعور نفسه بالقدرة على خصمه ، وأنه في قبضته ،
وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب ، وإعراضه عمن أغضبه ، وعدم اكتراثه به .
وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت ،
كما لم يكن ضحكه بقهقهة ، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ، ويسمع لصدره أزيز .
وكان بكاؤه
تارة رحمة للميت ،
وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها ،
وتارة من خشية الله ،
وتارة عند سماع القرآن
وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية .
ولما مات ابنهإبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال :
(تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ) ،
وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ،
( وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ النساء : 41 ] ،
وبكى لما مات عثمان بن مظعون ،
وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته ، وجعل ينفخ ويقول : ( رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم [ ص: 177 ] وهم يستغفرون ونحن نستغفرك ) وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته ، وكان يبكي أحيانا في صلاة الليل .
والبكاء أنواع .
أحدها : بكاء الرحمة والرقة .
والثاني : بكاء الخوف والخشية .
والثالث : بكاء المحبة والشوق .
والرابع : بكاء الفرح والسرور .
والخامس : بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله .
والسادس : بكاء الحزن .
والفرق بينه وبين بكاء الخوف ،
أن بكاء الحزن
يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب ،
وبكاء الخوف
يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك ،
والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن ،
أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ،
ودمعة الحزن حارة والقلب حزين ،
ولهذا يقال لما يفرح به : هو قرة عين ، وأقر الله به عينه ، ولما يحزن : هو سخينة العين ، وأسخن الله عينه به .
والسابع : بكاء الخور والضعف .
[ ص: 178 ] والثامن : بكاء النفاق ،
وهو أن تدمع العين والقلب قاس ، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلبا .
والتاسع : البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة ، فإنها كما قال عمر بن الخطاب : ( تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها )
والعاشر : بكاء الموافقة ، وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم فيبكي معهم ، ولا يدري لأي شيء يبكون ، ولكن يراهم يبكون فيبكي .
وما كان من ذلك دمعا بلا صوت فهو بكى -مقصور - وما كان معه صوت فهو بكاء - ممدود - على بناء الأصوات .
وقال الشاعر :
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
وما كان منه مستدعى متكلفا فهو التباكي ، وهو نوعان : محمود ومذموم ، فالمحمود أن يستجلب لرقة القلب ولخشية الله لا للرياء والسمعة . والمذموم أن يجتلب لأجل الخلق ، وقد ( قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر : أخبرني ما يبكيك يا رسول الله ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ) وقد قال بعض السلف : ابكوا من خشية الله ، فإن لم تبكوا فتباكوا .