وقوله تعالى:﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ معطوف على قوله:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ بـ﴿ ثُمَّ ﴾، وهي لترتيب المُخْبَر عنه، أو للتراخي الرُّتَبِي ؛ لأن المعنى: ابتدأ خلقه بشرًا من جنس التراب، ثم قال له:﴿ كُنْ ﴾، فكان إنسانًا بنفخ الروح فيه. فإنَّ تكوينه بقول:﴿ كُنْ ﴾ أرفع رتبة من قول:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ الذي هو أسبق في الوجود. والتَّكوين المشار إليه بـ﴿ كُنْ ﴾ هو تكوينه على الصفة المقصودة بإيجاد الروح فيه، ونقله من طور البشرية إلى طور الإنسانية. فبهذه الكلمة كان عيسى كلمةً من الله تعالى، وبهذه الكلمة كان آدمُ أيضًا كلمةً من الله تعالى.
وعلى هذا الذي ذكرناه يكون الترتيب في الآية الكريمة ترتيبًا زمانيًّا ؛ إذ بينَ خلق آدم بشرًا من تراب، وجعله إنسانًا بإيجاد الروح فيه، زمان طويل ؛ ولهذا لم يكن خلقه إبداعيًّا كما كان خلق المسيح عليه السلام.
ومذهب أكثر المفسرين على أن ﴿ ثُمَّ ﴾ لترتيب الخبر. وإلى هذا ذهب البغوي، فقال في ذلك ما نصُّه:« فإن قيل: ما معنى قوله:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، ولا تكوين بعد الخلق ؟ قيل: معناه: خلقه، ثم أخبركم أني قلت له: كن فكان، من غير ترتيب في الخلق ؛ كما يكون في الولادة، وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أعطيتك أمس درهمًا. أي: ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا ».
وفساد هذا القول ظاهر لمن تأمله أدنى تأمل ؛ وإلا فكيف يقاس كلام الله الذي هو الأعلى في البلاغة والفصاحة بقول مصطنع لا يمتُّ إليهما بأية صلة ؟ كيف يكون قوله تعالى:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، مثل قول الرجل:« أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا » ؟
تأمل الآية جيدًا، ثم انظر كيف تفكَّك نظمها، ومُسِخَ معناها مَسخًا بهذا التقدير، هكذا: خلقه اليوم من تراب، ثم أخبره أمس أنه قال له: كن فيكون. فالمعنى على هذا التقدير:﴿ قَالَ لَهُ ﴾ في الأزل:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، ﴿ ثُمَّ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾.
أما قوله تعالى:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ فهو ظاهر المعنى، لا يحتاج إلى تأويل، وقد بينا السر في اختيار لفظ التراب دون لفظ الطين ولفظ الصلصال.. وأما قوله تعالى:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فظاهر ﴿ كُنْ ﴾ يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في الحال، فأمره سبحانه بين الكاف والنون. وظاهر ﴿ فَيَكُونُ ﴾ يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في المستقبل المتراخي. وفي ذلك ما يسأل عنه: كيف يقول سبحانه للشيء:﴿ كُنْ ﴾، ثم لا يكون واقعًا في الحال ؟ ولو كان ما أمر الله تعالى به واقعًا في الحال، لكانت صياغة الآية هكذا:﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكان ﴾، فكيف يكون هذا ؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل، تحول بين القدرة، وبين إمضاء ما قدرت على الفور وفي الحال ؟
وقد اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في الإجابة عن هذا السؤال، وذهب أكثرهم إلى القول بأن المراد بقوله تعالى:﴿ فَيَكُونُ ﴾ حكاية حال ماضية، وأن أصل الكلام:( كُنْ، فَكَانَ ). قالوا: وإنما عبَّر بصيغة المضارع المقترن بالفاء دون الماضي، بأن يقال:( فَكَانَ ) ؛ لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت. ومن جهة أخرى، فإن صيغة المضارع في هذا المقام، تُنْبِىءُ عمَّا كان، وتُومِىءُ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل ؛ كما كان في الماضي.
ولكن هذا الذي قرَّروه- وإن كان يبدو لأول وهلة قولاً صحيحًا- هو خلافُ الظاهر، ويأباه نظم الكلام ومعناه. وبيانه: أن قول الله تعالى للشيء ﴿ كُنْ ﴾ لا يقتضي وقوع ذلك الشيء في الحال ؛ إذ قد يكون الأمر موقوتًا بوقت، أو يكون متعلقًا بأسباب لا بدَّ أن يقترن حدوثه بها. وهذه الأسباب لا متعلَّق لها بقدرة الله ؛ وإنما مُتعلَّقُها بالشيء ذاته الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألَّا يظهر ؛ إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به، وهذا ما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى:﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾( يس: 82 ). وذلك الشيء المراد معلومٌ قبل إبداعه، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه. وبذلك كان مُقدَّرًا مَقضِيًّا ؛ فإن الله سبحانه يقول، ويكتب ممَّا يعلمه ما شاء ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر:« إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ».
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:« كان الله، ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض ».
وفي سنن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:« أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: ما أكتب ؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة ».
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبيِّن أن المخلوق قبل أن يخلَق، كان مَعلومًا، مُخْبَرًا عنه، مَكتوبًا فيه شيء، باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني، ليس ثابتًا في الخارج ؛ بل هو عدمٌ مَحضٌ، ونَفْيٌ صِرفٌ. وإذا كان كذلك، كان الخطاب مُوَجَّهًا إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة وخُلِق، ثم كُوِّن ؛ كما قال تعالى:﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾( النحل:40 ). فالذي يُقال له:﴿ كُنْ ﴾ هو الذي يُرادُ. وهو حين يُرادُ قبل أن يُخلَق، له ثُبوتٌ وتَميُّزٌ في العلم والتقدير. ولولا ذلك، لما تميَّز المُرَادُ المَخلوقُ من غيره.
فثبت بذلك أن الله تعالى، إذا أراد أن يْكوِّن شيئًا معلومًا لديه، توجَّه سبحانه إلى ذلك الشيء بالخطاب بقوله:﴿ كُنْ ﴾، ﴿ فَيَكُونُ ﴾. أي: يوجد ذلك المُكَوَّنُ عَقِبَ التكوين، لا مع ذلك في الزمان ؛ ولهذا أتى سبحانه بصيغة الاستقبال مسبوقة بفاء التعقيب. وكونُ الفاء للتعقيب يُوجِبُ أن يكون الثاني عَقِبَ الأول، لا معه.
بقي أن تعلم أن ( الفاء ) تفيد التعقيبَ، والتسبيبَ. فلو قيل:( كن، فكان )، لم تدلَّ الفاء إلا على التسبيب، وأن القول سببٌ للكون. فلما قال عز وجل:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، دلَّت الفاء مع التسبيب على استعقاب الكون للأمر. وهذا لا يعني استعقابه في الحال، من غير مهلة ؛ لأن بناء المضارع لا يدل بصيغته على الحال، إذا لم يوجد معه قرينة تقيده به، وتقصره عليه ؛ وإلا فإنه يدل على الدوام والاستمرار بلا انقطاع ؛ لأنه موضوع لما هو كائن، لم ينقطع. وعليه فإن بناء الفعل ( يكون ) لا يدل بصيغته على الحال ؛ وإنما يدل على المستقبل المتراخي. وهذا يعني أن آدم خلق وسُوِّيَ بشرًا من تراب الأرض وطينها، ثم صاِر إنسانًا عاقلاً بنفخ الروح فيه ؛ وذلك هو المراد بقوله تعالى:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، بعد ذلك أمرت الملائكة بالسجود له، وهذا ما نصَّت عليه الآية الكريمة:
﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾( ص: 71- 72 ). والآية الكريمة:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾( الحجر: 28- 29 ).
ولو امتثل الناس قول الله تعالى:﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(العنكبوت: 20 )، لعرفوا كيف ابتدأ الخلقُ، ولو عرفوا، ما اختلف اثنان منهم في تفسير هذه الآية الكريمة، وغيرها من الآيات التي لا تنطق بالحق إلا لمن استنطقها من أولي النهى والبصائر ؛ كقول الله تبارك وتعالى:﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾( السجدة: 7- 8 ). وقوله جل وعلا:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾( المؤمنون: 12- 13 ).. إلى غير ذلك من الآيات التي نمر عليها، ونحن عنها غافلون.
رابعًا- ثم بين تعالى أن ما أخبر به عباده في أمر عيسى- عليه السلام- هو الحق الذي لا يحوم حوله باطلٌ، فقال سبحانه:﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾. فـ﴿ الْحَقُّ ﴾ على هذا خبر لمبتدأ محذوف. أي: ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام ﴿ الْحَقُّ ﴾، فحذف ؛ لكونه معلومًا. و﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾ حال من الحق.. وقيل: هو مبتدأ، استؤنف بعد انقضاء الكلام، وخبره قوله تعالى:﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾. وهذا كما تقول: الحق من الله، والباطل من الشيطان. وقيل غير ذلك.
أما الامتراء فهو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المَبْنيَّة على الأوهام، لا على الحقائق ؛ ومنه: المِراء. قال تعالى:﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ أَحَدًا ﴾( الكهف: 22 )، وأَصله في اللغة: الجِدال، وهو مأخوذ من قول العرب: مَرَيْتُ الناقة والشاة، إذا أردت حلبها ؛ فكأن الشاكَّ يجتذب بشكِّه مراءً كاللبن الذي يجتذب عند الحلب. يقال: قد مارى فلان فلانًا، إذا جادله ؛ كأنه يستخرج غضبه. ومنه قيل: الشكر يمتري المزيد. أي: يجلبه.
وقد أكد سبحانه وتعالى أن ما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هو الحق بتأكيدات ثلاثة: أولها: التعريف في لفظ ﴿ الْحَقُّ ﴾. أي: ما أخبرناك به هو الحق الثابت الذي لا يخالطه باطل. وثانيها: كونه من عند الله تعالى. وكل شيء من عنده سبحانه فهو صدق، لا ريب فيه. وثالثها: النهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق ؛ لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان وتسليم وبدون جدل، أو امتراء.
وأما النَّهْيُ عن الامتراء في قوله تعالى:﴿ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾ فهو موجَّه في ظاهره إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الرازي:« وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكًا في صحة ما أنزل عليه ؛ وذلك غير جائز. واختلف الناس في الجواب عنه: فمنهم من قال: الخطاب، وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنه في المعنى مع الأمة. والثاني: أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى: فدُمْ على يقينك، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء ».
وقال الألوسي:« ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلى الله عليه وسلم، بل ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين: إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم، إذا سمع مثل هذا الخطاب، تحركت منه الأريحية، فيزداد في الثبات على اليقين نورًا على نور. والفائدة الثانية: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم، فينزع وينزجر عمَّا يورث الامتراء ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني، إذا خوطب بمثله، فما يظن بغيره ؟ ففي ذلك ثبات له صلى الله عليه وسلم، ولطف بغيره ».
وقيل: بل المقصود من هذا النهي: التعريض بالنصارى الذين قال الله تعالى فينهم:﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾( مريم: 34 ). والله تعالى أعلم بمراده، وما ينطوي عليه كلامه من أسرار، سبحانه وتعالى !
محمد إسماعيل عتوك
باحث
في الإعجاز البياني للقرآن