الوصية الثانية :
قال الله - تعالى - : " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [(31) سورة آل عمران] .. ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".
يقول الأمام أبن كثير - رحمه الله تعالى - عند آية آل عمران .. هذه الآية الكريمة حاكمه على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي ، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
ولهذا قال : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " أي : يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه , وهو محبته إياكم ؛ وهو أعظم من الأول , كما قال بعض الحكماء العلماء ؛ ليس الشأن أن تُحِبَّ , إنما الشأن أن تُحَبَّ .. وقال الحسن البصري وغيره من السلف زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه " [ (31) سورة آل عمران ].
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - : " لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى ؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي . فتنوع المدعون في الشهود .. فقيل لا تٌقبل الدعوى إلا ببينة " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ " (31) سورة آل عمران .. فتأخر الخلق كلهم , وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه" ( من مدارج السالكين 3/9 ) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : " فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب , ليست محبته لله وحده , بل إن كان يحبه فهي محبة شرك , فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله , فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب , فكانوا يتبعون الرسول , فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين , وهكذا أهل البدع فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له ، وهو لا يقصد إتباع الرسول والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه, فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى , بحسب ما فيه من البدعة .. فإن البدع التي ليست مشروعة ، وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله ، فإن الرسول دعا إلي كل ما يحبه الله .. فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر" ( الفتاوى 8/361,360 ) .
والمقصود من إيراد الآية التي في سورة آل عمران وكلام أهل العلم عندها, وكذلك الحديث ، التنبيه في هذه الحملة المباركة إلى أن يراجع كل منا نفسه ويختبر صدق محبته لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - في قومته ونصرته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أن علامة حبنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصدقنا في نصرته أن نكون متبعين لشرعه وسنته ، وأن لا يكون في حياتنا أمور تسيء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتؤذيه ، فنقع في التناقض بين ما نقوم به من النصرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أحوالنا ، فيقع الفصام النكد بين القول والعمل " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" [(2 -3 ) سورة الصف ] .
فيا أيها الذي تعبد الله - تعالى - بغير ما شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقام لنصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : زادك الله غيرة وغضباً لله تعالى ، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ولكن اعلم أن الذي قمت لنصرته هو القائل : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " [البخاري :2697 ] وعليه فإن أي ابتداع في الدين ، سواء كان ذلك في الأقوال أو الأعمال لمما يؤذي نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ويسيء إليه .
فاحذر أن تكون ممن يدعي محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو في نفس الوقت يؤذيه و يعصيه ؛ فإن هذا يقدح في صدق المحبة والإتباع , ويتناقض مع نصرته ونصرة سنته. وأشنع من هذا من يدعي محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصرته ثم هو يقع في الشرك الأكبر ويدعوه أو يدعو علياً والحسين وغيرهم من الأولياء من دون الله .. أو يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسب أزواجه أو أصحابه فإن كل ذلك يدل على كذب أولئك المدعين .
ويا أرباب البيوت والأسر الذين قمتم لنصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن هذا منكم لعمل طيب مشكور ؛ ولكن تفقدوا أنفسكم فلعل عندكم وفي بيوتكم وبين أهليكم ما يغضب الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من آلات اللهو ، وقنوات الإفساد ومجلات اللهو والمجون .. فإن كان كذلك فاعلموا أن إصراركم عليها واستمراءكم لها لمما يسيء إلى الرسول ويؤذيه ، ويتناقض مع صدق محبته .. إذ أن صدق المحبة له تقتضي طاعته و اتباعه ؛ لأن المحب لمن يحب مطيع .
ويا أيها التاجر الذي أنعم الله - تعالى - عليه بالمال والتجارة .. إنه لعمل شريف ، وكرم نبيل أن تهب لنصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتهجر وتقاطع منتجات القوم الكفرة الذين أساءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآذوه ، ولكن تفقد نفسك ومالك عسى أن لا تكون ممن يستمرئ الربا في تنمية أمواله ، أو ممن يقع في البيوع المحرمة ، أو يبيع السلع المحرمة التي تضر بأخلاق المسلمين وأعراضهم وعقولهم .
فإن كنت كذلك فحاسب نفسك وراجع صدق محبتك للرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قمت لنصرته .. ألا تعلم أنك بأكلك الربا تعد محارباً لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وصدق القيام لنصرته قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ " (279) , (278) سورة البقرة
ألا تعلم أن الأولى بالمقاطعة والهجر هو هجر ما حرم الله - عز وجل - من الربا والبيوع المحرمة والسلع المحرمة التي قد استمرأها الكثير من التجار ؟ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم - " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " [البخاري :10] .
ولا يعني هذا التهوين من مقاطعة منتجات القوم بل أرى الصمود في ذلك، ولكن أردت التنبيه إلى ضرورة تخليص حياتنا من هذه الازدواجية، وعدم المصداقية.
ويا أيها القائمون على المؤسسات الإعلامية من صحافة ؛ وإذاعات وتلفاز ، وقنوات فضائيه في بلدان المسلمين .. إنه لعمل مشكور هذا الذي تشاركون به في حملة الانتصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ولكن ألا يعلم بعضكم أنه يعيش حاله من التناقض ، إن لم يكن ضرباً من النفاق ، وذلك عندما يدعي محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرته ممن أساء إليه من الكفرة ، ثم هو في نفس الوقت يبث في صحيفته أو إذاعته أو تلفازه أو قناته الفضائية ما يسيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويؤذيه ، وذلك مما حرم الله عز وجل وحرَّمه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من إشاعة الفاحشة، وتحسين الرذيلة ، وبث الشبهات ، والشهوات ، و النيل من أولياء الله عز وجل وأولياء رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاستهزاء بهم وبسمتهم وهديهم وعقيدتهم والله - عز وجل - يقول : " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب " [البخاري :11/292] ..
فكيف تعرضون أنفسكم لحرب الله عز وجل وأنتم تدعون نصرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والذب عنه .. إن الذب عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون بالتزام سنته، والذب عنها والتوبة من كل ما يقدح فيها ، والتزام طاعته - صلى الله عليه وسلم - والصدق في محبته , وإلا كان هذا الانتصار مجرد ادعاء، ومفاخرة ونفاق - نعوذ بالله من ذلك- .
ويا أصحاب الحل والعقد في بدان المسلمين إن أمانتكم لثقيلة فالحكم والتحاكم بأيديكم , والإعلام و الاقتصاد بأيديكم ، والتربية والتعليم بأيديكم ، وحماية أمن المجتمع ، وحماية الثغور بأيديكم فما أعظم أمانتكم ومسؤوليتكم أمام ربكم عز وجل وأمام أمتكم , فهل تعلمون أن من رفض منكم الحكم بما أنزل الله - عز وجل - واستحل ما حرم الله - عز وجل - إنما هو من أعظم المسيئين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمناوئين له ؟ وأن من أقام اقتصاده على الربا والمعاملات المصرفية المحرمة إنما هو من المؤذين والمحاربين لله - عز وجل - ، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟
وأن من مكن لأهل الشر والإفساد والشبهات والشهوات في إعلام الأمة ليفسدوا عقائد الناس وعقولهم وأعراضهم إنما هو من أشد المؤذين والمبغضين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وأن من تولى الكفرة و وادهم وقربهم من دون المؤمنين فهو من المحادين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟
إذا علمنا جميعاً هذه المسلَّمات , وعلمنا أن هذه الممارسات المسيئة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجودة في أكثر بلدان المسلمين اليوم فما قيمة أن يقوم بعض حكام هذه البلدان بإظهار الشجب والغضب لمن أساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلام الغرب الكافر ، وهم من أعظم المسيئين إليه - عليه الصلاة والسلام - ، برفض شرعه و موادة أعدائه ؟
إن هذا لعمر الله لهو التناقض والنفاق والتدليس والتلبيس ,إذ أن من كان صادقاً في حبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصادقاً في غضبه وانتصاره ممن أساء إليه يكون من أول المتبعين لسنته - صلى الله عليه وسلم - وشريعته لا من الرافضين والمناوئين لها !!
وفي ختام هذه الوصية أرجو أن لا يفهم من كلامي أني أهون من هذه الحملة القوية لنصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والدفاع عن عرضه الشريف أو أني أدعو إلى تأجيلها حتى تصلح أحوالنا حكاماً ومحكومين .. كلا بل إني أدعو إلى مزيد من هذا الانتصار والمقاطعة والتعاون في ذلك كما هو الحاصل الآن والحمد لله رب العالمين ..
ولكنني أردت أيضاً الالتفات إلى أحوالنا وتفقد إيماننا ، وصدقنا في محبتنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والانتصار له ، بأن نبرهن على ذلك بطاعته عليه الصلاة والسلام واتباعنا لشريعته والذب عنها والاستسلام لها باطناً وظاهراً ..
قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" (208) سورة البقرة. وقال تعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا" (36) سورة الأحزاب . وقال تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [ (65) سورة النساء] .