بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كانت الهزيمة في « أحد » ، هي أول هزيمة تصدم المسلمين ، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية . فلما أن صدمتهم أحد ، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه!
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم . واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة ، وبالاستنكار تارة وبالتقرير تارة وبالمثل تارة تربية لنفوسهم وتصحيحاً لتصورهم ، وإعداداً لهم . فالطريق أمامهم طويل والتجارب أمامهم شاقة والتكاليف عليهم باهظة والأمر الذي يندبون له عظيم .
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام ، لا يحدد فيه نبياً ولا يحدد فيه قوماً . إنما يربطهم بموكب الإيمان; ويعلمهم أدب المؤمنين; ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين; ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين; ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد . وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير :
{ وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } . .
. . وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة . فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح . وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح ، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء . . فهذا هو شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين . .
{ والله يحب الصابرين } . .
الذين لا تضعف نفوسهم ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون أو يستسلمون . . والتعبير بالحب من الله للصابرين . له وقعه . وله إيحاؤه . فهو الحب الذي يأسو الجراح ويمسح على القرح ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير!
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء . فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم . صورة الأدب في حق الله وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه . ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله . . لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة ، ولتعترف بالذنب والخطيئة قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء:
{ وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } .
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء . بل لم يطلبوا ثواباً ولا جزاء . . لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة . لقد كانوا أكثر أدباً مع الله وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيله . فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام . . والنصر على الكفار . فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . . إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم .
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً أعطاهم الله من عنده كل شيء . أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة . وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه:
{ فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } . .
وشهد لهم - سبحانه - بالإحسان . فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد وأعلن حبه لهم وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب :
{ والله يحب المحسنين } . .
وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي . وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة . وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل . .
في ظلال القرآن - سيد قطب