وأما الأسباب التي تستجلب بها محبة رب الأرباب فمن ذلك :
1- معرفة نعم الله على عباده، التي لا تعد ولا تحصى }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا{ وقد جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها، والحب على النعم من جملة شكر المنعم، ولهذا يقال: إن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح ومن الأسباب أيضا.
2- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله فمن عرف الله أحبه ومن أحب الله أطاعه ومن أطاع الله أكرمه ومن أكرمه الله أسكنه في جواره ومن أسكنه في جواره فطوبى له.
3- ومن أعظم أسباب المعرفة الخاصة: التفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وفي القرآن شيء كثير من التذكير بآيات الله الدالة على عظمته وقدرته وجلاله وكماله وكبريائه ورأفته ورحمته وبطشه وقهره وانتقامه إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فكلما قويت معرفة العبد بالله قويت محبته له ومحبته لطاعته وحصلت له لذة العبادة من الصلاة والذكر وغيرهما على قدر ذلك.
4- ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل معاملة الله بالصدق والإخلاص ومخالفة الهوى فإن ذلك سبب لفضل الله على عبده وأن يمنحه محبته.
5- ومن أعظم ما تستجلب به المحبة كثرة ذكر الله تعالى فمن أحب شيئا أكثر من ذكره وبذكر الله تطمئن القلوب، ومن علامة المحبة لله دوام الذكر بالقلب واللسان.
6- ومن أسباب محبة الله لعبده: كثرة تلاوة القرآن الكريم بالتدبر والتفكر ولا سيما الآيات المتضمنة لأسماء الله وصفاته وأفعاله الباهرة ومحبة ذلك يستوجب به العبد محبة الله ومحبة الله له.
7- ومن أسباب المحبة تذكر ما ورد في الكتاب والسنة من رؤية أهل الجنة لربهم وزيارتهم له واجتماعهم يوم المزيد فإن ذلك تستجلب به المحبة لله تعالى([3]).
وذكر ابن القيم رحمه الله أن الأسباب الجالبة لمحبة الله لعبده ومحبة العبد لربه عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض كما في الحديث القدسي «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» رواه البخاري.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر هذا.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
السابع: وهو أعجبها انكسار القلب بين يديه.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي آخر الليل وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل، فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب اهـ من مدارج السالكين 3/ 17، 18.
هذا، ومن علامات المحبة الصادقة لله ولرسوله التزام طاعة الله والجهاد في سبيله واستحلاء الملامة في ذلك واتباع رسوله، قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{ [المائدة: 54] وقال تعالى: }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ [آل عمران: 31] وصف سبحانه المحبين له بخمسة أوصاف.
أحدها: الذلة على المؤمنين: والمراد بها لين الجانب والرأفة والرحمة للمؤمنين وخفض الجناح لهم كما قال تعالى: }وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ [الشعراء: 215] ووصف أصحابه بمثل ذلك في قوله }مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ{ [الفتح: 29] وهذا يرجع إلى أن المحبين لله يحبون أحبابه ويعودون عليهم بالعطف والرحمة.
الثاني: العزة على الكافرين، والمراد بها الشدة والغلظة عليهم كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ{ [التحريم: 9] وهذا يرجع إلى أن المحبين له يبغضون أعداءه، وذلك من لوازم المحبة الصادقة.
الثالث: الجهاد في سبيل الله وهو مجاهدة أعدائه بالنفس واليد والمال واللسان وذلك أيضا من تمام معاداة أعداء الله الذي تستلزمه المحبة.
الرابع: أنهم لا يخافون لومة لائم والمراد أنهم يجتهدون فيما يرضى به من الأعمال، ولا يبالون في لومة من لامهم في شيء إذا كان فيه رضي ربهم، وهذا من علامات المحبة الصادقة أن المحب يشتغل بما يرضى به حبيبه ومولاه ويستوي عنده من حمده في ذلك أو لامه.
الخامس: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعته واتباعه في أمره ونهيه وقد قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: }أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ{ [التوبة: 24] والمراد: أن الله لا يوصل إليه إلا عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم باتباعه وطاعته.
قال ابن رجب: ومحبة الرسول على درجتين؛ إحداهما فرض وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية ثم حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة فهذا القدر لا بد منه ولا يتم الإيمان بدونه.
والدرجة الثانية: فضل وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به وتحقيق الاقتداء بسنته في أخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته وأكله وشربه ولباسه وحسن معاشرته لأزواجه وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة والراقية والاعتناء بمعرفة سيرته وأيامه واهتزاز القلب عند ذكره وكثرة الصلاة والسلام عليه لما سكن في القلب من محبته وتعظيمه وتوقيره ومحبة استماع كلامه وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين، ومن أعظم ذلك الاقتداء به في زهده في الدنيا الفانية والاجتزاء باليسير منها والرغبة في الآخرة الباقية، اهـ من كتاب استنشاق نسيم الأنس.
ومن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله ويؤثر مرضاته على ما سواه وأن يسعى في مرضاته ما استطاع وأن يبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة ويتابع رسوله صلى الله عليه وسلم يمتثل أمره، ويترك نهيه كما قال تعالى: }مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ{ [النساء: 80] فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى عنه فذلك علم على عدم محبته لله ورسوله فإن محبة الرسول من لازم محبة الله كما تقدم فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه ومحبة الله تستلزم محبة طاعته فإنه يحب من عبده أن يطيعه والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد ومن لازم محبة الله أيضا: محبة أهل طاعته كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان ومن أحب الله تعالى أحب فيه ووالى أولياءه وعادى أهل معصيته وأبغضهم وجاهد أعداءه ونصر أنصاره وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها وبكمالها يكمل توحيد العبد، هذا وقد نهى الله سبحانه عن موالاة أعدائه في مواضع كثيرة من القرآن وأخبر أن موالاتهم تنافي الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وأنها سبب للفتنة والفساد في الأرض وأن من والاهم ووادهم فليس من الله في شيء وأنه من الظالمين الضالين عن سواء السبيل وأنه مستوجب لسخط الله وأليم عقابه في الآخرة والآيات في هذا كثيرة منها، قول الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ{ إلى قوله: }وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ{ [الممتحنة: 1].
2- قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ{ [المائدة: 51]([4]).
فمن أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة ومحبة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ [التوبة: 23] وفي النص على الأقارب دليل على أن مصارمة من سواهم من الكفار مطلوبة بطريق الأولى والأحرى وقال تعالى: }لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ{ [المجادلة : 22] .
قال البغوي رحمه الله تعالى: أخبر الله أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكفار وإن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر وإن كان من عشيرته، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا فمن واد الكفار فليس بمؤمن اهـ وقال تعالى: }وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ{ [هود: 113] والركون: هو المحبة والميل بالقلب. إذا علم تحريم موالاة أعداء الله تعالى وموادتهم فليعلم أيضا أن الأسباب الجالبة لموالاتهم وموادتهم كثيرة جدا ومن أقربها وسيلة مساكنتهم في الديار، ولا سيما في ديارهم الخاصة بهم ومخالطتهم في الأعمال ومجالستهم ومصاحبتهم وزيارتهم وتولي أعمالهم والتزيي بزيهم والتأدب بآدابهم وتعظيمهم بالقول والفعل وكثير من المسلمين واقعون في ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة بالنهي عما فيه تعظيم لأعداء الله تعالى فمن ذلك بداءتهم بالسلام ومصافحتهم والترحيب بهم والقيام لهم وتصديرهم في المجالس والتوسيع لهم في الطريق لما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» رواه مسلم.
وقد ورد النهي عن مجامعة المشركين ومساكنتهم في ديارهم لأن ذلك من أعظم الأسباب الجالبة لموالاتهم ومحبتهم والأحاديث في ذلك كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» رواه أبو داود ورواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم» وقوله صلى الله عليه وسلم «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» رواه أبو داود والترمذي.
فليتأمل المسلمون الساكنون مع أعداء الله تعالى هذه الأحاديث وليعطوها حقها من العمل فقد قال الله تعالى: }فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ{ [الزمر: 17، 18] فالحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله من أهم أمور الدين، وأوثق عرى الإيمان وأفضل الأعمال عند الله وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم([5]).
----------------------
([1]) النساء: 65
([2]) من كتاب استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس لابن رجب.
([3]) انظر المرجع السابق ص22-30.
([4]) انظر تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجرات للشيخ حمود بن عبد الله التويجري.
([5])المصدر بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين للشيخ عبد الله ن جار الله آل جار الله ـ رحمه الله ـ ص 34.