عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 2008-01-13, 4:47 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
صفات عباد الرحمن


3 ) قيام الليل
4 ) وخوف النار


ما زلنا مع هدي الفرقان في سورة الفرقان ، ما زلنا مع صفات أهل الرضوان من عباد الرحمن ، ما زلنا مع الأخلاق الزاكية ، والخلال العالية ، عرفنا منها فيما سبق صفتي : التواضع فهم يمشون هونا ، والحِلم فهم يجيبون الجاهل عليهم بكلامٍ سالمٍ من العيوب والبذاءة : ﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ﴾ [ الفرقان : 63 ] .

إنها أخلاقٌ تظهر في هيئاتهم وبيانهم ، في حركة أرجلهم وبنات شفاههم ، هذا شأنهم إذا خالطوا الناس في النهار وقت السعي والعمل ، وقت التعامل مع الناس وأصناف البشر ، أما إذا جن عليهم الليل وخلوا بربهم ؛ فهم العباد الوجلون ﴿ والذي يبيتون لربهم سجداً وقياماً ﴾ [ الفرقان : 64 ] .


كان الحسن البصري رحمه الله إذا قرأ قوله تعالى : ﴿ والذي يمشون على الأرض هوناً ﴾ قال : هذا وصف نهارهم ، وإذا قرأ : ﴿ والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ﴾ ، قال : هذا وصفهم ليلهم .

مع الناس في النهار تواضعٌ وحلم ، وفي الليل عبادةٌ وخشية ، توازنٌ رائع يحتاجه كل مسلم ، حتى لا تزل قدمه أو يعوج مساره ، هذه الخلوة الإيمانية تصفو فيها النفس ويرق فيها الفؤاد ، إنها علاج لو يعلم الناس .

أما قال الله - تعالى - لنبيه الخائف - صلى الله عليه وسلم - الذي قال " زملوني زملوني " : ﴿ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ﴾ [ المزمل :1 ] ؛ قم يا محمد للزاد الذي تواجه به الجهد والنصب ، قم الليل .. لماذا ؟! يقول تعالى : ﴿ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ﴾ [ المزمل : 5 ] إنها أعباء عظيمة وأنت تهيأ لها يـا محمد ؛ ﴿ إن ناشئة الليل ﴾ [ المزمل : 6 ] أي : ما ينشأ بعد العشاء ، ﴿ هي أشد وطئاً ﴾ أي : أجهد للبدن ؛ ﴿ وأقوم قيلا ﴾ أي : أثبت للخير .


إنه الإعداد لتحمل مسؤوليات كبرى ، إنه تدريبٌ للانتصار على شهوات النفس الغريبة ؛ النوم ولذة الفراش .

يا أيها المؤمن بربه : إن قيام الليل والناس نيام ، والانقطاع عن نبش الحياة وضجيجها ، والاتصال بالله والأنس به والخلوة إليه ، وترتيل القرآن والكون ساكن ، إن هذا كله هو الزاد ، لاحتمال القول الثقيل ، والدعوة المجهدة ، وتحقيق الهدف المنشود ، ناشئة الليل أجهد للبدن وأثبت للخير إنها خلوةٌ لا بد منها لصاحب الهم والمسؤولية ، صاحب الرسالة .. أما من ألهته السفاسف ، ورضي بالدون فليس مخاطباً بهذا ..

إن مغالبة هاتف النوم وجاذبية الفراش بعد كدِّ النهار ، أجهد للبدن ، لكنها إعلانٌ واضح لسيطرة الروح واستجابةٌ لدعوة الله وإيثار الأنس به ، لذا فهي أقوم قيلا لأن للذكر فيها حلاوة ، وللصلاة فيها طلاوة ، وللمناجاة فيها لذة ، تُكسب القلب راحةً وشفافيةً ونوراً .


عباد الله ألسنا بحاجة إلى كل ذلك ؟ ألسنا بحاجةٍ إلى هذه الصفة من صفات عباد الرحمن ﴿ والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ﴾ [ الفرقان : 64 ] .

إنها الصفة الثالثة من صفات عباد الرحمن ينعتهم ربهم بشغل الليالي بالذكر والعبادة ؛ فيقول عنهم : ﴿ والذين يبيتون ﴾ وما قال : يصلون بالليل ؛ لأن بات تدل على الدخول في الليل واستمرار العمل فيه ، كما تدل ( ظل ) على ذلك ؛ لكن في النهار ، فهم من أول ليلهم في عبادة وحركة ، في حين يسكن الناس ويميلون إلى الدعة والراحة ، أو يغطون في نومٍ عميقٍ وهم في ذلك لا يملون بل هم دائبون عاملون ، مهما تطاول الزمن كما يدل على ذلك المضارع ﴿ يبيتون ﴾ من التجدد والتكرار ..

وهذا الكد وتلك الحركة هي لله وحده ، لذا قدم سبحانه قوله جلت قدرته : ﴿ لربهم ﴾ أي : له وحده ، وذكر ربوبيته هنا استحضارٌ لنعمته عليهم ، ورأفته بهم ، وحبه لهم ، وإنعامه عليهم ، فمن شكره أن يعبدوه ، وأن يستغرقوا الأعمار في طاعته ، ولقد شرفهم الله ورفع مكانتهم ؛ يوم أضافهم إليه سبحانه فقال : ﴿ لربهم ﴾ .

﴿ سجداً وقياماً ﴾ : ما قال يصلون مع أن هذا هو المراد ؛ لأن إظهار الحركة هنا مقصودٌ : سجودٌ وقيامٌ ، حركةٌ دائبة ، وعملٌ مستمر ، لذا ذكر من أعمال الصلاة ما يُشعِر بكمال هذه الحركة ، وقدم - سبحانه - السجود على القيام ، مع أن القيام في الصلاة قبل السجود لمناسبة الموقف ، فهم خاضعون لربهم ، يرجون رحمته ويخافون عذابه ..

هم في موقف الاتصال بالخالق العظيم ، ومعلوم أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد كما أن أبرز مظاهر الخضوع هو السجود ، إنه التعبير المادي لكمال الخضوع لله - سبحانه وتعالى - لذا قُدم على القيام ، والقيام هو عنوان القوة والقدرة ؛ فهم ينحطون إلى الأرض ليرفعوا جباههم إلى السماء ، ويعفرون جباههم لتكون في جِبلة جبينهم شامة يوم يلقون ربهم .

عجباً والله لهذه الفئة التي تنشغل عن النوم المريح ، والفراش الوفير ، بما هو ألذ وأمتع ؛ فإذا كان الناس يتطلعون في الليل إلى الفرُش ، فهؤلاء يتسامون إلى العرش ، وإذا كان الناس ينعمون بالأنغام والأوتار ، فهؤلاء يتلذذون بساعات الأسحار : ﴿ كانوا قليلاً ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون ﴾ [ الذاريات : 17- 18 ] .


فلله درهم .. ما أحسن شأنهم في هذا المجال ! وما أجمل خبرهم في هذا المضمار ! يشتاقون إلى العبادة كما يشتاق غيرهم إلى الدعة والراحة ..

ومن عجبٍ إني أحن إليهم وأسأل شـوقاً عنهـمُ وهُمُ مـعي
وتبكيهُمُ عيني وهم في سوادها ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي

هكذا تُقضى الليالي ، لا كما نرى اليوم ، تضيع دقائق الليالي الغالية ، بين غرفٍ ووتر ، وألحانٍ وصور ، وعيون متسمرةٌ أمام الشاشات ، مشغولة بتقليب القنوات ، لا يزداد القلب معها إلا قسوةً وبعداً ، ولا ينال صاحبها غالباً إلا حرماناً وبؤساً ..

ما هكذا والله تُغذى القلوب ، ولا تُروح النفوس ، يا قومنا ؛ ألا نشعر بالخجل من حالنا ؟! وعباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، وبعضنا يبيت عاصياً لربه ، مضيعاً لوقته ، كئيب الوجه ، أسود القلب ، قليل الخشية !

يا مؤمن ؛ مهما كان عملك ، ومهما كثرت أشغالك فلست أعظم شغلاًً ، ولا أكبر حملاً ، وإلا أخطر مسؤولية من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم الليل حتى تنتفخ قدماه ، فيقال له : أتكلف نفسك هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " [ رواه البخاري ومسلم ] .

أخي الكريم: إن رغبت في هذا الشرف فعليك بالآتي :

أولاً : تقليل الطعام والخلطة .
ثانياً : حفظ النظر عن المحرمات .

ثالثاً : الصبر والمجاهدة .
رابعاً : النوم مبكراً .

خامساً : استشعار فضل القيام ، فإنه من أسباب الأنس ومحبه الله للإنسان ، والرفعة في الدنيا والآخرة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثلاثةٌ يحبهم الله ، ويضحك إليهم ويستبشر بهم : الذي إذا انكشفت فئةٌ قاتل وراءها بنفسه لله - عز وجل - فإما أن يُقتل وإما أن ينصره الله ويكفيه ، فيقول : انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه ، والذي له امرأةٌ حسنة وفراشٌ لينٌ حسن ، فيقوم من الليل يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد ، والذي كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا ، فقام من السحر في ضراءٍ وسراءٍ " [ رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن وقال الهثيمي : رجاله ثقات ، صحيح الترغيب والترهيب (625) ] .



هاهم أولاء عباد الرحمن يشتاقون إلى الجنان ، بصيام الهواجر ، وقيام الليالي مستحضرين قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : " في الجنة غرفةٌ يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها " قال أبو مالك الأشعري : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : " لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام ، وبات قائماً بالليل والناس نيام " [ صححه الألباني في الترغيب والترهيب (613) ] .

ومع تلك الأعمال العظيمة ليلهم ونهارهم ، فهم على وجلٍ وخوفٍ ، إنهم رغم صبرهم على الجاهلين ، ولينهم مع المؤمنين ، وقيامهم في الليالي إلا إنهم يخافون النار ، يخافون العذاب .

عباد الرحمن يدعون ربهم فيقولون ﴿ ربَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّم ﴾ وكأن جهنم معترضةً لهم تنتظرهم ، وتستعد للقاء بهم كما يلقى العدو عدوه ، يقولون : ﴿ َربَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ﴾ ؛ ولم يقُل اصرفنا عن عذاب جهنم ..

إنه الاستشعارُ العظيم لهول النار وشدة جحيمها ﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ أي : شراً دائماً لازماً عياذاً بالله ، ﴿ إنها ساءت مستقراً ﴾ : مكاناً لا يرضونه أبداً ، وساءت أيضاً ﴿ مقاماً ﴾ ممن يمر عليها ..

إنها موسومة بالسوء على كل حال ، هكذا ينظر لها عباد الرحمن !! فكيف ينظر لها آكلوا الربا ؟! والمغتابون وقاطعوا الرحم ؟! والداعون إلى الرذيلة .. كيف ؟! ألا يخافون لهيبها ؟ ألا يخشون عذابها ؟ أين اليقين بكلام رب العالمين ؟ أين الإيمان الحق ليحرك القلوب حتى تراقب الله في كل لمحةٍ وحركةٍ ؟!


الشيخ / د. عويض بن حمود العطوي