قد ألتقي به هناك ... في الدار الآخرة إن شاء الله تعالى !
و تراجعت عن فكرة الزواج لأني صرت قلّما أثق بأحد ! و خاصة أن طريق الرجعة إلى أهلي سوف يكون قد أغلق ! فلو تطلّقت مثلاً أو ترمّلت ، فإني سوف أتشرّد !! هذا ، بالإضافة إلى أني جرّبت أن أختبر أهلي لأعرف ردة فعلهم فيما يخص زواجي ، و إذ بهم يقومون و لا يقعدون ! يصيحون و يبكون ! يهددون و يوعدون ! يتوسلون و يترجّون !!
كل هذه الأمور جعلتني أعزف عن هذا الرأي و أتحول إلى الرأي الآخر . و بدأت الاتصالات و المباحثات و المفاوضات مع الأهل و على رأسهم أمي. فوضعت شروطاً متعددة قبل تقديم استقالتي فوافقوا عليها ، و راحت أمي تعدني و تمنّيني و تبدي استعدادها لفعل كل ما يجعلني مرتاحة نفسياً و لو أن تبني لي مسجداً !! فقلت لها أني لا أريد منها أن تبني لي مسجداً و لكني فقط أريد أمن أستقلّ بغرفة خاصة مع حمامها بيرندتها، فوافقت . و راحت تؤكد لي أن الجميع يتقبّلون إسلامي و لن يزعجني منهم أحد قط.
فقدّمت استقالتي آنذاك ، و ودعت الأخوات و الصديقات بدموع غزيرة، و جمعت أشيائي وحاجاتي ، ثم شحنت كتبي و أشرطتي و سافرت ! كان شعوري حينها كشعور المهاجر من ديار الوطن إلى ديار الغربة !
و حين وصلت ، وجدت كل ما حولي يثير الغضب و السخط ! و تفاجأت بأن كل ما سمعته من وعود و أماني و كلمات معسولة من الأهل كان عبارة عن كذب و زيف !!
طبعاً ، أخي و أخواتي كانوا محايدين نوعاً ما ، لكن أمي المتعصّبة و المتشرّبة بمذهبها بدأت تخلّ بعهودها !
فرفضت أن تعطيني غرفة ، و بدأت تعلن الحرب علي !
تألّمت كثيراً و تمنّيت لو أني متّ قبل أن أعود من الإمارات ،و كانت صدمتي فوق التصور !
بكيت و لجأت إلى الله تعالى بالدعاء فشعرت بقوة تدفعني و تحثني أن أقاوم و لا أستسلم !
انتظرت حتى انتهى عرس أخي و استقرّ سكنه في الشقة التي فوق شقّتنا ، ثم سافرت كل واحدة من أخواتي إلى بيتها ، و توجهتُ إلى الغرفة المنشودة ، و أخرجتُ الأثاث منها و بدأتُ بتنظيفها ، و عندما أرادت امي أن تتدخّل ، كلّمتها بحزم و ذكّرتها بوعودها ، و حذرتها بأنها لو اعترضتني فإنها سترى مني فعلاً لن يسرّها أبدا !
فسكتت و تركتني و شأني ، ثم بدأت أؤثث الغرفة على النحو الذي يناسبني ، فاشتريت تلفاز مع " دش " كي أتمكّن من رؤية المحطات الدينية و قنوات الإمارات لأني لا أريدها أن تغيب عن بالي لارتباطها بمخيّلتي بعصر الازدهار ! و اشتريت مكتبة جمعت فيها كتبي و أشرطتي ، و اشتريت كمبيوتر و موبايل كي أبقى على تواصل مع صديقاتي و مشائخي ، و فرشت الغرفة فرشاً عريياً أنيقاً كي أستقبل فيها صديقاتي المسلمات ، و وضعت باباً يفصل بين غرفتي و حمّامي و باقي البيت ، كي تتمكن صديقاتي من الوضوء براحتهن ، و أضفت إلى كل ذلك بعض الكماليات الأخرى ، فوضعت مظلّة على شرفة غرفتي كي تحجبني عن الجيران ، و ملأت الشرفة بالأزهار و النباتات ، كي أحس ببعض الشفافية و الروحانية حين أخرج لأتمشى و أقرأ أذكار الصباح و المساء .و لم أنسى تعليق التقويم كي أتمكن من معرفة مواقيت الصلاة إذ أني لا أسمع الآذان! لأنه لا يوجد إلا مسجداً واحداً في أقصى المدينة ! فالغالبية العظمى من سكان منطقتنا هم من غير المسلمين !
و بذلك استطعت بفضل الله سبحانه و تعالى أن أجعل لنفسي واحة خضراء في قلب الصحراء . ثم انتقلت للخطوة الثانية ، إذ قمت بشراء شقة من الأموال التي جمعتها في دبي و أجّرتها ، و بذلك أمّنت لنفسي مورداً مالياً لا بأس به يغنيني عن حاجة الناس ، و عدت لمواصلة دراستي في الجامعة التي تركتها بعد زواجي و سفري . و كذلك بدأت بمحاولة العودة للعمل في سلك التدريس هنا . و شعرت بأن التدريس سوف يمكنني من أداء رسالة معينة في غرس الهدى و الحق في عقول الطالبات .
أما الخطوة الثالثة و الأهم ، كانت في مبادرتي مباشرةً بالاتصال مع صديقاتي المسلمات اللاتي أعرفهنّ من أيام المعهد و الجامعة . فقد جمعتنا الدنيا في الماضي على أمورها و مشاغلها من دراسة و محاضرات و تدريس و غير ذلك ، و ما كنا نتطرق للحديث في الدين بسبب تعدد الطوائف ! أما في الحاضر فصارت الآخرة تجمعنا ، و حب الله و رسوله و الإسلام يضمّنا ! صرنا نجتمع بشكل دوري كل أسبوع عند واحدة نتدارس القرآن و التفسير و الفقه ، و قمت بنسخ مكتبتي لكل واحدة منهنّ لما فيها من صحّة و مصداقية و بُعد عن البدع و التحريف و التشويه . و أمددتهن بما علّمني ربي من تجويد القرآن و علم على منهج أهل السنة و الجماعة ، و كنّ يتقبّلن ذلك برغبة ، و يجتهدن في العلم و التعليم ، و الصلاح و الإصلاح .
و هكذا تفضّل الله علي سبحانه بتلك الصحبة الحسنة من أخوات فاضلات طيبات تجمع بيننا المحبة الخالصة في الله . طبعاً هذا المسار لم يكن ممهّداً مسهّلاً أمامي ، بل كان مملوءاً بالصعوبات و الأذى من مجتمعي وخاصة من أمي التي كانت تراقب سكناتي و حركاتي ، و لا تفتر عن توبّيخي و الصراخ في وجهي و رميي بألفاظ قاسية جارحة ! فكانت تعترضني في حجابي و الزيّ الذي ألبسه ، و تسخر مني حين تجدني أصلّي ، و تعنّفني حين تراني أجلس في غرفتي أتابع بعض البرامج الدينية ، و تشتعل غضباً عندما أذهب للقاء صديقاتي المسلمات ! في بعض الأحيان كانت تتبع أسلوب آخر في الضغط علي كي تردّني عن ديني ، فتراها تبكي و تتمارض و تقول بأنني أنا سبب مأساتها فإن ماتت فبسببي و بحسرتها علي !
حاولت أن أتصبّر بالله و أثبت ، لكني بصراحة لا أخفي أنني قد مررت بمرحلة عشت فيها بحرب نفسية و كآبة شديدة ! حننت فيها للإمارات و تحرّقت شوقاً للأيام الخالية ! فبغضّ النظر عن اصطدامي مع الأهل و المجتمع ، فقد كانت الفتن تحيط بي من كل جانب ، فالذين أعيش معهم هم أناس لا يصلّون ، لا يصومون ، لا يزكّون ! و أخواتي سافرات متبرجات و على آخر موضة ! بالإضافة إلى المسلسلات و الأفلام و الأغاني و المعازف و الاختلاط ! يعني باختصار ، مسارهم يختلف عن مساري تماماً ، فلا أنا أفهم لغتهم و لا هم يفهمون لغتي !
هذه الأمور اجتمعت علي و جعلتني أشعر لفترة من الفترات بأنني بدأت أفقد من خشوعي في الصلاة ، و أتراجع قليلاً عن شيء من عباداتي ، و أتخلّى عن بعض الأمور التي كنت أتورّع عنها في السابق ، و ضعف توكلي و يقيني قليلاً !
و بالنتيجة ، بدأت أستشعر عقوبة الله تعالى لي لانصرافي عنه بعض الشيء و حيدي عن الصراط الذي هداني إليه بعض الشيء ! فابتُليت بالنسيان ، إذ بدأت أنسى بعض آيات الله و بعض الأحاديث و الآثار . و كذلك استشعرت العقوبة في قلة التوفيق في بعض الأمور ، و كذلك بتوالي المرض و قلة البركة في المال و الوقت !!
عندها جزعت كثيراً ، و أسرعت للدعاء و رددت :
" ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب ". و طلبت من بعض الصالحين من المشائخ و الصديقات أن يدعوا لي ، ثم غيّرت برنامج نومتي و قومتي ! فصرت أسهر الليل كله حتى الصباح ، ثم أنام في الفترة الصباحية حتى الظهر ، و بذلك تمكّنت من تجنب الاختلاط بمن حولي و اكتفاء شرهم في معظم النهار ،و استطعت أن أهنأ بالفراغ و الهدوء و الوحدة في الليل كي أصلي التهجّد و أقرأ الكتب و أتابع البرامج و أحفظ القرآن و أراجع نفسي دون أن يعترضني أحد !
ثم شاء الله أن تذهب إحدى صديقاتي إلى الحج ، فأوصيتها بالدعاء لي هناك عند الكعبة ، و سبحان الله ، بدأت أموري تُفرج رويداً رويداً ، و بدأ الأهل و الأقارب و المعارف يتقبّلون إسلامي إلى حد ما و لا يزعجونني ، حتى أمي قد هدأت قليلا و لكن ليس بالكلّية !
و بدأت أدعوه الأهل و الأقارب و المعارف إلى الإسلام سواء عن طريق الكتاب و الشريط ، أو عن طريق الحوار و النقاش ، أو بالدعاء لهم . فلاحظت أن منهم من أعرض تماماً و رفض الفكرة ، و منهم من اقتنع بالإسلام و لكنه خاف من المجتمع ، و منهم من كان مذبذباً لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء ! لكني ما وجدت أحداً منهم قد استجاب تماماً و بدأ يطبّق الإسلام في حياته بشكل فعلي و للأسف الشديد ! أما الأطفال فكانوا يدخلون غرفتي و يصلون معي فأفرح بهم ثم أجلسهم و أحكي لهم قصص الصالحين و أكلمهم عن الثواب و العقاب بما يتماشى مع عقولهم . و عن الجنة و ما فيها ، فيتأثرون كثيراً و يشتاقون لدخول الجنة و يكونون في قمة الإيمان و الحماس . لكنهم حين يعودون إلى أهليهم و ينخرطون مع الضالين من الناس ، أجدهم قد نسوا كل ما قلته لهم ، و خاصة أن أهاليهم يحدثونهم بأشياء مغايرة لما أحدثهم به ، و خاصة أن أمي تتولى موضوع إضلالهم و هدم كل ما بنيته ! لكن و مع كل ذلك أشعر و أن بذور الإسلام قد دخلت في قلوبهم و استقرت فيها ، و إن شاء الله ستثمر يوماً ما . و هكذا استقرّت أموري نسبيّاً، و عدت بفضل الله تعالى إلى نشاطي السابق في العبادة و طلب العلم و الدعوة بشتى طرقها و اتجاهاته. و صار هدفي في هذه الحياة هو الثبات على الحق في الأيام الباقية من عمري ، و الاستزادة من العلم و العبادات و الطاعات ، و أن يجعلني الله تعالى مفتاح خير مغلاق شر و يستعملني في طاعته حتى ألقاه و هو راض عني سبحانه . و قد أوصيت أن أدفن لوحدي إذا توفّاني الله في إحدى البساتين و المزارع التي يملكها أهلي في الضيعة !
أسأل الله تعالى أن يحسن ختامنا و يتولى أمر ديننا و دنيانا و حياتنا و مماتنا فإنه وليّ ذلك و القادر عليه .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيد المرسلين ، سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين . سبحانك اللهم و بحمدك أشهد ألاّ إله إلا انت أستغفرك و أتوب إليك .
* * *
* الزهراء *