يُحكى عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه، وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبّون عليها يأكلون؛ فتهلّلت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال: هكذا وجدناهم هكذا وجدناهم!! يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسه، فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك، قال الألوسي رحمه الله: "وهذا شيء قد كان إذ الناس ناس والزمان زمان... وأما اليوم فقد طُوي -فيما أعلم- بساطه، واضمحل -والأمر لله تعالى- فسطاطه، وعفت آثاره، وأفلت أقماره، وصار الصديق اسماً للعدو الذي يخفي عداوته، وينتظر لك حرب الزمان وغايته، فآه ثم آه ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.."
الصداقة ينبغي أن تكون خالصة من القلب، متجردة من المغنم، صامدة عند المغرم، ثابتة في البأساء والضراء، وفي الفقر والغنى. الصدق شعارها، والكذب ليس شأنها، بل المقت والإبعاد معه سبيلها، وفاء في الوعود، والتزام عند العهود، صراحة في الخطاب، ووضوح في العتاب، همس عند التعريف بالخطأ، ونقد ثم نصح صادق بعيداً عن الملأ، مع حسن ظن ورحمة ومودة لا تكدرها الأحداث ولا المواقف.
ولذا نجد أن الله تبارك وتعالى يقرنه مع الأرحام في رفع الحرج أن يأكل الإنسان في بيوت:" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [النور:61] أي أو بيوت صديقكم وهو من يصدق في مودتكم وتصدق في مودته يقع على الواحد والجمع، والمراد به هنا الجمع، وقيل: المفرد، وسر التعبير به دون أصدقائكم الإشارة إلى قلة الأصدقاء