أيها الأحباب:
والحاصل أنّ الدعاء بإذن الله نافع في رفع البلاء ودفع العقوبة إذا ما صدر من قلب مؤمن صادق لله عز وجل. ولقد كان نبيكم عليه الصلاة والسلام أفزعُ الناس إلى الدعاء، وخصوصاً إذا ألمت مصيبة أو نزلت نازلة، حتى أنه إذا رأى تغيّراً في أفق الجو لجأ إلى الله عز وجل بالدعاء، وجأر إلى الله سبحانه وتعالى بالتضرّع: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). [سورة الأعراف، الآية: 55].
واسمعوا واقرأوا قصته صلى الله عليه وسلم عند غزوة الأحزاب، وفي بدر لما خرج لملاقاة المشركين، فقد بات ليلته والناس نائمون، بات ليلته كلها وهو يدعو الله عزّ وجل، وقد وعده الله عزّ وجل أن ينصره، ومع ذلك بات يدعو الله طيلة تلك الليلة، يدعو الله بقلب خاشع، وبكف ضارع يجأر إلى الله عز وجل، ويبكي ويتضرع، ويمرّغ وجهه بين يدي رب العالمين في ظلمات الليالي صلوات الله عليه، ففي الحديث "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). [سورة الأنفال، الآية: 9]."
والقصص مشهورة ومعروفة، فحينما يلجأ العبد إلى ربّه وقت الشدة، ويكشف الله عزّ وجل عنه ما يجد: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ). [سورة النمل، الآية: 62].
وقد ذُكر عن بعض الصالحين وغيرهم أنهم دعوا الله عز وجل وقت الشدة، وقد صدقوا اللجأ والاضطرار إلى الله عز وجل، فرفع الله عز وجل عنهم البلاء.
وقد ذُكر عن أيوب السختياني عليه رحمة الله، وهو أحد رجال الصحيحين، وأحد الأئمة الأثبات أنّه خرج مع قومه وأهل بلده في الحج، فأصابهم في الصحراء عطش شديد، ونفدت مياههم، فقالوا له: يا أيوب، ألا تستغيث الله عز وجل لنا؟! قال: ومن أنا حتى استغيث الله عز وجل لكم؟! فألحوا عليه، وحلفوا، فاقسم عليهم أن لا يخبروا أحداً بما يحصل. فقالوا: نعم فخط خطاً بعمامته، ودعا الله عزّ وجل، فما أن فرغ من دعائه حتى ثارت تلك الخطة التي خطها بعمامته ماءاً، وشربوا وسقوا، وانصرفوا إلى حجهم. والقصص في ذلك كثيرة ومشهورة.
والحاصل - يا عباد الله - أن المسلم في مثل هذه الأحوال، وفي مثل هذه الظروف عليه أن يلجا إلى الله بالدعاء والتضرع، فإن الله عز وجل يحب الملحّين من عباده في الدعاء. وفي الحديث: "إن الله يحب الملحّين في الدعاء" وفي الآخر: "من لم يسأل الله يغضب عليه".
وما أحسن ما قال الشاعر
لا تسألن بُني ابن ادم حاجة ** وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضب
سبحانه وتعالى وتقدس، نسال الله تعالى أن يجعلنا أفقر عباده إليه، وأغنى خلقه عمن سواه.
معشر الأحباب في الله:
إنّ هناك شروطاً وآداب للدعاء، إذا رعاها العبد استجاب الله له، وإنما يحجب الله عز وجل دعوات كثير من الناس لأنهم فرطوا في هذه الآداب والشروط أو أكثرها.
فمن هذه الشروط التي ينبغي على العبد مراعاتها: أن يدعو بدعوة بر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اخبر أنّ الله سبحانه وتعالى لا يستجيب إلا دعوة البر، وأمّا دعوة الإثم وقطيعة الرحم فلا مكان لها في الإجابة.
وأمر آخر، وهو: أن يدعو الله عزّ وجل، فلا يدعو غيره، لأنّ الدعاء عبادة لا تكون إلا لله، وصرفها لغير الله - كائناً من كان – إنّما هو شرك بالله العظيم: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ). [سورة الأحقافن الآية: 5].
أيها الأحباب:
والشرط الثالث لضمان الإجابة: أن يتخلّص العبد من الذنوب والمعاصي والسيئات، وان يتوب إلى الله توبة صادقة، فلا يليق أن يدعو الله عز وجل وكله سيئات ذنوب ومعاصي وآفات كبيرات وصغيرات، بل عليه قبل ذلك أن يتخلّص من كل ذنب، وان يقبل إلى الله بقلب طاهر أبيض قبل أن يمدّ يده إلى الله عزّ وجل.
جاء في بعض الآثار: "أن قوما من بني إسرائيل أصابتهم عقوبة، فخرجوا يدعون الله عز وجل، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن قل لهم إنكم خرجتم إلى الصعدات بأجساد نجسة، ورفعتم أكفاً طالما سفكتم بها الدماء، وملأتم بيوتكم وبطونكم من الحرام، ألان بعد ما اشتد عليكم غضبي لم تزدادوا مني إلا بعداً".
فقبل أن يجأر العبد إلى الله بالدعاء فعليه أن يتفقّد نفسه، وأن يتوب من كل ذنب صغيراً كان أم كبيراً.
الأمر الرابع: أن يحرص العبد على أن يطيب مطعمه، فلا يأكل إلا طيباً، فان أكل الحرام والمشتبه من أعظم ما يمنع ويحجب الدعاء، والعياذ بالله.
وهذه من آفات الناس اليوم، فإنّ كثيراً من الناس لا يسأل من أين أتى هذا الطعام، أَمِن بلاد الكفر والشرك والإلحاد، أم مِن بلاد المسلمين؟!.
ولقد أكل كثيرٌ من الناس ذبائح المغضوب عليهم، الذين هم إلى الإباحية أقرب من التمسك بالكتاب، وأكلوا ذبائح الملحدين، الذين لا يعترفون بالله، وأكلوا كثيراً من الأطعمة التي خالطها الخنزير، وخالطها كثير من الحرام من المسكر وغيره، ولو بنسبة قليلة، وهم يعلمون ذلك، ولكن لا يسالون عنه، فأنى يستجيب الله عز وجل لهم؟!.
ولما جاءه سعد بن أبي وقاص، وقال: "يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني مجاب الدعوة. قال: يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة".
فأطاب سعد مطعمه، فكان بعد ذلك لا يدعو دعوة إلا استجاب الله عز وجل عنه، والقصة معروفة عنه ومشهورة، لا نذكرها خشية الإطالة.
وجاء في الحديث الآخر الذي أخرجه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). [سورة المؤمنون، الآية: 51] وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ). [سورة البقرة، الآية: 172].
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ. وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ".
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث قصة سعد: "والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت، والربا فالنار أولى به".
التعديل الأخير تم بواسطة يمامة الوادي ; 2007-11-30 الساعة 4:25 AM.
|