ولما اكتمل لابن عباس ما طمح إليه
من العلم تحول إلى معلم يعلم الناس ...
روى أحد أصحابه قال :
لقد رأيت من ابن عباس مجلسا لو أن جميع قريش افتخرت به
لكان لها مفخرة ، فلقد رأيت الناس اجتمعوا في الطرق المؤدية إلى بيته
حتى ضاقت بهم ، و سدوها في وجوه الناس ،
فدخلت عليه و أخبرته باحتشاد الناس على بابه ، فقال :
ضع لي وضوءا ، فتوضأ وجلس ،
وقال : اخرج وقل لهم : من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه فليدخل ...
فخرجت فقلت لهم ، فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة ،
فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به و زادهم مثل
ما سألوا عنه وأكثر . ثم قال لهم :
أفسحوا الطريق لإخوانكم ...
فخرجوا ثم قال لي :
اخرج فقل من أراد أن يسأل عن تفسير القرآن فليدخل ..
فخرجت فقلت لهم ، فدخلوا حتى ملؤوا الحجرة ،
فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به و زادهم مثل ما سألوه و أكثر ،
ثم قال لهم :
أفسحوا الطريق لإخوانكم ..
فخرجوا ثم قال لي :
اخرج فقل : من أراد أن يسئل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل ،
فخرجت فقلت لهم ، فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة ،
فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله ، ثم قال :
أفسحوا الطريق لإخوانكم ..
فخرجوا ، ثم قال لي :
اخرج فقل : من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل ...
فخرجت فقلت لهم ، فدخلوا حتى ملؤوا البيت و الحجرة ،
فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به و زادهم مثله ، ثم قال لهم :
أفسحوا الطريق لإخوانكم ..
فخرجوا ثم قال لي :
اخرج فقل : من أراد أن يسأل عن العربية والشعر
وغريب كلام العرب فليدخل ..
فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة ، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به ،
وزادهم مثله ، قال راوي الخبر :
فلو أن قريشا كلها فخرت بذلك لكان ذلك لها فخرا .
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يجلس
في الأسبوع يوما لا يذكر فيه إلا التفسير .
ويوما لا يذكر فيه إلا الفقه .
ويوما لا تذكر فيه إلا المغازي .
ويوما لا يذكر فيه إلا الشعر .
ويوما لا تذكر فيه إلا أيام العرب .
وما جلس إليه عالم قط إلا خضع له ،
وما سأله إلا سائل قط إلا وجد عنده علما .
وقد غدا ابن عباس بفضل علمه و فقهه ، مستشارا للخلافة الراشدة
على الرغم من حداثة سنه ، فكان إذا عرض لعمر بن الخطاب
أمر أو واجهته معضلة دعا جلة الصحابة
ودعا معهم عبدالله بن عباس ، فإذا حضر رفع منزلته
و أدنى مجلسه و قال له :
لقد أعضل علينا أمر أنت له و لأمثاله .
وقد عوتب مرة في تقديمه له و جعله مع الشيوخ ، وهو ما زال فتى ،
فقال : إنه فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول .
على أن ابن عباس حين انصرف إلى الخاصة ليعلمهم ويفقههم ،
لم ينس حق العامة عليه ،
فكان يعقد لهم مجالس الوعظ والتذكير فمن مواعظه
قوله مخاطبا أصحاب الذنوب :
يا صاحب الذنب لا تأمن عاقبة ذنبك ،
واعلم أن ما يتبع الذنب أعظم من الذنب نفسه ،
فإن عدم استحيائك ممن على يمينك
وعلى شمالك و أنت تقترف الذنب لا يقل عن الذنب ،
وإن ضحكك عند الذنب وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب ،
وإن فرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب ،
وإن حزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب ،
وإن خوفك من الريح إذا حركت سترك ،
و أنت ترتكب الذنب مع كونك لا يضطر
ب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب ، يا صاحب الذنب :
أتدري ما كان ذنب أيوب عليه السلام حين ابتلاه الله عز وجل بجسده وماله ؟
إنما كان ذنبه أنه استعان به مسكين ليدفع عنه الظلم فلم يعنه .
ولم يكن ابن عباس من الذين يقولون ما لا يفعلون ،
وينهون الناس ولا ينتهون ، وإنما كان صوام نهار قوام ليل .
أخبر عنه عبدالله بن مليكة قال :
صحبت ابن عباس رضي الله عنه من مكة إلى المدينة ،
فكنا إذا نزلنا منزلا قام شطر الليل والناس نيام من شدة التعب ،
ولقد رأيته ذات ليلة يقرأ
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ
مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ )..
فظل يكررها وينشج حتى طلع عليه الفجر ،
وحسبنا بعد ذلك كله أن نعلم أن عبدالله بن عباس كان
من أجمل الناس جمالا ، و أصبحهم وجها ، فما زال يبكي في جوف الليل
من خشية الله حتى أحدث الدمع الهتون على خديه
الأسيلين مجريين شبههما بعضهم بشراكي النعل .
وقد بلغ ابن عباس من مجد العلم غايته ،
ذلك أن خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان خرج ذات سنة حاجا ،
وخرج عبدالله بن عباس حاجا أيضا ، ولم يكن له صولة ولا إمارة ،
فكان لمعاوية موكب من رجال دولته ،
وكان لعبدالله بن عباس موكب يفوق موكب الخليفة من طلاب العلم .
عمًر ابن عباس إحدى و سبعين سنة ملأ فيها الدنيا علما
و فقها و حكمة وتقى ، فلما أتاه اليقين
صلى عليه محمد بن الحنفية والبقية الباقية
من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة من التابعين ،
رضي الله عنه و أرضاه .