فانظر إلى قوله تعالى:[فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً
يَأْخُذُونَهَا] [سورة الفتح، الآيات: 18، 19].
فلما علم الله ما في قلوب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ أنزل السكينة عليهم,
وأثابهم فتحًا قريبًا,
ومغانم كثيرة يأخذونها... كل هذا لما علمه الله من الخير الذي في القلوب.
وانظر كذلك إلى فائدة تعلق القلب بالمساجد, قال النبي صلى الله عليه
وسلم:[سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا
ظِلُّهُ ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ] رواه البخاري
ومسلم.
فالخيرات والبركات, والنصر والفتوحات كل ذلك يتنزل من عند الله سبحانه على قدر
ما في القلوب من خير.
وكذلك رفع الدرجات, وعلو المنازل ووراثة الجنان كل ذلك من عظيم أسبابه: ما في
القلوب من خير.
والله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب والأعمال، ويُجازي عليها ويثيب ويعاقب،
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:[إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ
وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] .
وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:[لا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا
وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ
إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ
وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ] رواه مسلم.
فما أسعد أصحاب القلب السليم! هنيئًا لهم هؤلاء الذين وحَّدوا ولم يشركوا به
شيئًا, ولم يراءوا ولم ينافقوا... هنيئًا لهم هؤلاء القوم الذين باتوا وليس في
قلوبهم غلٌّ للذين آمنوا ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين أحبوا للمؤمنين ما أحبوه
لأنفسهم ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين حافظوا على قلوبهم ولم يلوثوها بذنوب ترسب
عليها السواد والنكت والران والختم ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين اطمأنت قلوبهم
بذكر الله.
طوبى لهؤلاء وحسن مآب ... يكاد أحدهم يطير في الهواء من سعادته وخفة قلبه,
وهو يحب للمؤمنين الخير وقلبه نظيف من الذنوب والمعاصي، وقلبه سعيدٌ لحلول
الخير على العباد... هنيئًا لهم هؤلاء الرحماء أرقاء القلوب لذوي القربى
والمسلمين.
وكذلك العقوبات والمؤاخذات كمٌّ كبيرٌ منها ينبني على ما في القلوب:
قال الله تعالى :[ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَت قُلُوبُكُمْ [225]] [سورة
البقرة].
وها هم أصحاب الجَنَّةِ، أصحاب البستان الذين ابتلاهم الله عَزَّ وَجَلَّ
عوقبوا عقوبة عاجلة في الدنيا؛ لما أضمرته قلوبهم من شر وبخل كما حكى الله
سبحانه فقال :[إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ
إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحينَ * وَلا يَسْتَثْنُون *َ فَطَافَ
عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُون *َ فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيم] [سورة القلم، الآيات: 17ـ 20].
وها هي طائفة من أصحاب رسولنا صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنهم وعفا عنهم ـ
لما خرج بعضهم يريد الدنيا يوم أُحد كانت إرادته سببًا في هزيمة إخوانه، عفا
الله عن الجميع، قال الله سبحانه: [وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ
تَحُسُّونَهُم بإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ في الأَمْرِ
وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاَكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُمْ مَّن يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدَ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ [ 152]] [سورة آل عمران].
فيا سبحان الله! كيف كانت إرادة الدنيا عند فريقٍ سببًا في هزيمته وهزيمة من
معه؟!
وها هو رجل ـ الغالب عليه النفاق ـ لم ير المؤمنون منه نفاق، لكن الله يعلمه
ويعلم ما في قلبه، ذلك الرجل كان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جريئًا, كان شُجاعًا, كان مغوارًا ،
كان لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا تبعها، يقتل من المشركين الجم الغفير,
ويجرح فيهم ويطعن!
ولكن الله يعلمه ويعلم ما في قلبه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه:[
أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ].
فكاد المسلمون أن يرتابوا؟ كيف هو من أهل النار، وهو أشجعنا؟! سبحان الله هو
من أهل النار؟! ولِم هو من أهل النار؟ الله يعلم ذلك, هو سبحانه الحكيم الخبير
هو العليم بما في الصدور، هو العليم بما في قلب هذا الرجل. ها هي قصته، وها هو
شأنه:
أخرج البخاري ومسلم من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ :أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى
هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى
عَسْكَرِهِمْ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا
اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ فَقَالَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ
أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ] فَقَالَ رَجُلٌ
مِنْ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ
مَعَهُ وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا
شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ
وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ
نَفْسَهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ:[ وَمَا ذَاكَ؟]
قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ
فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَنَا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي
طَلَبِهِ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ
نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ
عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ:[ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ].