ثمرات الهمة العالية:
(1) تحقيق كثير من الأمور التي يعدها عامة الناس خيالاً يتحقق ومن أمثلة ذلك بناء أمة مؤمنة في الجزيرة العربية التي يشيع فيها الجهل والشرك وذلك في فترة وجيزة ، وابن ياسين استطاع أن يقود بعصابة قليلة من أصحابه المربِّيين دولة انتصرت على جيوش الأسبان بعد استشهاده ، والإمام حسن البنا نادى في أمته الميتة بأمور اعتبرت من الخيالات وهو القائل: "أحلام الأمس حقائق اليوم وأحلام اليوم حقائق الغد"(9).
(2) الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد.
قال معاذ رضي الله عنه على فراش الموت: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري (لعله لكري) الأنهار ولا لغرس الأشجار ، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل وظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر"(10).
(3) البعد عن سفاسف الأمور ودناياها:
لما فرَّ عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس من العباسيين أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: "إن هذه من القلب والعين بمكان وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عن ما أطلبه ظلمت همتي ، ولا حاجة لي بها الآن وردها على صاحبها"(11).
(4) صاحب الهمة العالية يعتمد عليه وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه:
وهذا أمر مشاهد معروف فإن المديرين والرؤساء عادة يطمحون للعمل مع صاحب الهمة العالية ويستعدون للتضحية معه حتى ولو كلفهم ذلك الكثير. وقد قيل: "ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً"(12).
(5) صاحب الهمة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة وتكون أوقاته مثمرة بناءة.
وقال الإمام ابن عقيل الحنبلي : إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح"(13).
وكان الإمام النووي يقرأ كل يوم اثني عشر درساً شرحاً وتصحيحاً ، ويقول لتلميذه بارك الله في وقتي(14).
ويقول د. مَارْدِن: "كل رجل ناجح لديه نوع من الشباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان ، ونعني بها فضلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يكنسه معظم الناس بين مهملات الحياة . وإن الرجل الذي يَدَّخِرُ كل الدقائق المفردة وأنصاف الساعات والأعياد غير المنتظرة والفسحات التي بين وقت وآخر ، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم ، ويستعمل كل هذه الأوقات ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن"(15).
(6) صاحب الهمة العالية قدوة للناس .
(7) تغيير طريقة حياة الشعوب والأفراد :
يقول الشيخ محمد الخضر حسين: "يسموا هذا الخلق بصاحبه إلى النهايات من معالي الأمور فهو الذي ينهض بالضعيف فإذا هو عزيز كريم، ويرفع القوم من السقوط ويبدلهم بالخمول نباهة وبالاضطهاد حرية وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية ... أما صغير الهمة فإنه يَيْصُر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة ثم لا يَلْبَثُ أن يسير في ركبهم ويسابق إلى حيث تحط أهواؤهم"(16).
وسائل ترقية الهمة :
1 – المجاهدة : قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
2 – الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
3 – اعتراف الشخص بقصور همته.
وهذا يستلزم أيضاً أن لا ينكر أنه قادر على تغيير همته وتطويرها إلى الأحسن.
4 – قراءة سيرة السلف الصالح.
يقول ابن القيم: "... ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا هو يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي و... فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع فصرت أستزري ما الناس فيه وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد"(17).
وقال محمد بن علي الأسلمي: قمت ليلة سَحراً لآخذ النوبة على ابن الأَخْرَمِ فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر(18).
5 – مصاحبة صاحب الهمة العالية.
6 – مراجعة جدول الأعمال اليومي ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم.
7 – التنافس والتنازع بين الشخص وهمته.
ومعنى ذلك أن على مريد تطوير همته أن يحمل نفسه أعباءً وأعمالاً يومية لم تكن موجودة في حياته بحيث يحدث نوع من التحدي داخل النفس، ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط.
8 – الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة يقول عمر بن عبد العزيز رحمهُ الله: "إن نفسي تواقة وإنها لم تعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه..." (19).
9 – الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها مثل :
أ – كثرة الزيارات للأقارب بدون هدف شرعي صحيح ولا غرض دنيوي فيه فائدة معتبرة .
ب – كثرة الزيارات للأصحاب فيكثر المزاح وتقل الفائدة .
ج – الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله ، ثم ينقلب الأمر إلى تحصيل محض للدنيا وانغماس فيها .
د – تكليف الموظف نفسه بعملين صباحي ومسائي دون ضرورة لذلك .
هـ - كثرة التمتع بالمباحات .
و – الاستجابة للصوارف الأصرية استجابة كلية أو شبه كلية .
يقول محمد بن حسن موسى: "وقد دخلت علينا في حياتنا الأسرية كثير من التقاليد الغريبة في أمر الاحتفاء الزائد بالأهل والأولاد ودعوى ضرورة بناء مستقبلهم وغير ذلك مما حاصله نسيان الكفالة الإلهية والضمان الرباني"(20).
ز – التسويف قال الشاعر :
ولا أؤخر شغل اليوم عن كسلٍ *** إلى غدٍ إن يوم العاجزين غَدُ
ح – الكسل والفتور .
قال الصاحب: "إن الراحة حيث تعب الكرام أوْدَع لكنها أوضع والقعود حيث قام الكرام أسعل لكنه أسفل" (21) وقال الشاعر:
كأن التواني أنكح العجز بنته *** وساق إليها حين أنكحها مهرا
فراشاً وطيئاً ثم قال له اتكئ *** فَقُصْراكما لا شك أن تلدا فقرا
ط – مُلاحظة الخلق وتقليدهم والائتساء بهم ، فأكثر الخلق مفرطون .
مظاهر علو الهمة :
1 – تحرقه على ما مضى من أيامه وكأنه لم يكن قط صاحب الهمة المتألق المنجز لكثير من الأمور .
2 – كثرة همومه وتألمه لحالة المسلمين .
3 – موالاته النصيحة وتقديم الحلول والاقتراحات لمن يرجو منهم التغيير والإصلاح.
4 – طلبه للمعالي دائماً .
5 – كثرة شكواه من ضيق الوقت .
6 – قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده ، فهو إذا قرر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه ، بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته ، ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر من بعد إبرامه من علامات تدني الهمة.
لكل إلى شأو العُلا حركات *** ولكن قليل في الرجال الثبات
كيفيَّة استثمار همم الناس :
للناس ثلاثة أقسام :
1 – قسم ضائع مضيع يترك إلى حين إفاقته .
2 – قسم محافظ على الفرائض .
- فهذا القسم إن كان من أهل اليسار والغنى يوجه إلى المشاركة والتنافس في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد وإغاثة المنكوبين ومساعدة الجمعيات والهيئات الإسلامية الخيرية .
- إن كانوا من ذوي الدخول المتوسطة يوجهون إلى سماع الدروس والخطب التي يعدها خطباء مرموقون .
- توجيه الشباب وتحميسهم للمشاركة في الجهاد .
- التوضيح والتنبيه والقيام بالنصيحة وبيان أن باستطاعتهم توجيه جهودهم إلى ما هو أنفع .
- توجيههم للقراءة النافعة .
3 – قسم – وهو المعول عليه بعد الله سبحانه وتعالى – ملتزم بدينه ومحافظ عليه يطمح إلى القيام بما يجب عليه وهذا يوجه إلى :
- الانتساب إلى جمعية أو هيئة لها برنامج عمل محدد .
- الانتساب إلى جماعة إسلامية صالحة من الجماعات المنتشرة في العالم الإسلامي تعمل بجد وإخلاص لإقامة دين الله سبحانه وتعالى .
- توعية الشخص المنصوح بأن يختار لنفسه مجالاً يبدع فيه .
محاذير أمام أهل الهمم العالية :
1 – صاحب الهمة العالية تحلق به همته دائماً فتأمره بإنجاز كثير من الأعمال المتداخلة في وقت واحد فليطعها بقدر ولا يستبعد ما تأمره به وفي الوقت نفسه لا يَقُمْ به كلِّه بل يأخذ منه بقدر ما يعرف من إسعاف همته له بالقيام به .
2 – صاحب الهمة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته وتحاول أن تذكره دائماً بأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ... فالحصيف لا يلتفت إلى هذه النصائح إلا بقدر .
قال ابن نباتة السعدي :
أعاذلتي على إتعاب نفسي *** ورعيي في الدجى روض السهادِ
إذا شام الفتى برق المعالي *** فأهون فائت طيب الرقادِ
3 – صاحب الهمة معرض لسهام العين والحسد فعليه بالأذكار المأثورة ليدرأ عن نفسه ما قد يصيبه .
4 – صاحب الهمة تعتريه فترْة وضعف قليل لما يراه من تدني همم غالب الخلق فلا يحزن وليوطن نفسه على الإحسان والنصيحة .
5 – أهل الهمة العالية قد يكونون مفرطين في بعض الأمور التي ربما لا يرون فيها تعلقاً مباشراً بعلو هممهم مثل حقوق الأهل والأقارب ، فعلى من أصيب بشيء من ذلك أن يصلحه ولو بالقدر الذي يبعد عنه سهام اللائمين .
6 – قد تؤدي الهمة العالية بصاحبها إلى التحمس الزائد فيستعجل ويرتكب من الأخطاء ما كان يمكن تلافيه بقليل من التعقل وحساب العواقب ، وعلى من وقع في مثل هذا أن يعرف السنن الكونية ، وأن الأمر لا يحسم بين عشية وضحاها .
7 – أهل الهمة العالية قد يتعرضون لإثارة الخلافات الفقهية بينهم فينتج عن ذلك الذم والمقت ومن أمثلة ذلك التعرض للجماعات الإسلامية العاملة في الساحة ، ومن أصبح ذلك ديدنه فستتخلف همته وتقعد به عن معالي الأمور .
8 – قد يتعرض صاحب الهمة إلى عدم المداومة مع أن أبرز سمات صاحب الهمة العالية المداومة وعدم الانقطاع وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل"(22).
فهمة متوسطة العلو تدوم خير من همة عزيمة متقطعة يقول أبو المواهب بن صَرْصَرَى : لم أَرَ مِثْل أبي القاسم ابن عساكر ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور فقد أسقط عن نفسه ذلك ... (23).
وقال أبو العباس ثعلبٌ: "ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو خمسين سنة"(24).
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من أهل الهمة العالية وأن يبارك لنا في أوقاتنا وأعمالنا .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
هذه الورقات ملخصة من كتاب الهمة طريق إلى القمة للشيخ محمد بن حسن بن عقيل موسى ، أجزل الله له المثوبة وبارك في وقته وعمله .
-----------------------------------
(1) مدارج السالكين 3/171 .
(2) محاضرات الأدباء 1/445 .
(3) الدرر الكامنة 4/21 .
(4) لفتتة الكيد إلى نصيحة الولد ص 45 .
(5) سنن الترمذي رقم 2331 ( كتاب الزهد ) 4/564 باب 16 باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر .
(6) محاضرات الأدباء 1/447 .
(7) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب فضل السجود والحث عليه .
(8) الحلية لأبي نعيم 1/381 .
(9) انظر مجموعة رسائله .
(10) مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها ( باب صلاة النبي ودعائه بالليل ) .
(11) نفح الطيب 4/43 .
(12) محاضرات الأدباء 1/445 .
(13) الوقت هو الحياة لعبد الستار نوير 176 .
(14) انظر تذكرة الحفاظ 4/147 .
(15) سبيلك إلى الشهرة والنجاح .
(16) رسائل الإصلاح 2/88 .
(17) قيمة الزمن عند العلماء للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص 31 .
(18) نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء لمحمد بن الحسن موسى ص 2/1145 .
(19) عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين تأليف عبد الستار الشيخ ص 34 .
(20) الهمة طريق إلى القمة ص 54 .
(21) محاضرات الأدباء 1/448 .
(22) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق.
(23) تذكرة الحفاظ 4/1332 .
(24) نزهة الفضلاء 2/2 – 98 .
سيد محمد بن جدو