بعد هذه المقدمة اللازمة بين يدى الموضوع وإقرارنا لوجوب الأخذ بالأسباب نقنن هذا المبدأ الإسلامي من خلال هذه الكلمات المضيئة آنفة الذكر:
فالجملة الأولى تقول: (التفات القلب إلى الأسباب قدح فى التوحيد) أى أن الإنسان إذا اعتقد أن السبب هو الأصل في الجلب والمنع كان هذا قادحًا فى توحيده وكان سببًا فى إشراكه، ولا يستقيم توحيد العبد لله إلا إذا كان قلبه لا يلتفت إلى سبب من الأسباب التى جعلها الله لذلك.
قال صلى الله عليه وسلم قال ربنا: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) (3).
فأرشدهم إلى عدم الالتفات إلى الأسباب والعلامات التى جعلها الله سببًا للحدث بحيث إن استقر هذا الإيمان فى القلب كان صاحبه لا ينفك عن دائرة الشرك، ومن اعتقد أنه علامة وسببٌ فحسب فهو مؤمن بالله.
وهذا المعنى يظهر فى من خلال هذه الآيات: قال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ}، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}.{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}.{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي}.
لاحظ كلمة (قل) فى هذه الآيات، ثم لاحظ هذه الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
فإنه فى الآية لم يقل وإذا سألك عبادي عني فقل كذا، وإنما ألغى هذه الكلمة (قل) لأن (قل) هذه هى الواسطة بين الحق والخلق ولا تكون فى أمر من أمور العبادة المحضة لله، فالدعاء عبادة محضة لله لا يجوز أن يُشرك فيه غيره حتى إن كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلاً.
فمع كون الرسول هو مبلغ الرسالة عن ربنا وهو الواسطة بين الحق والخلق, وهو سبب إيماننا، ولكن إنْ التفتنا إليه بقلوبنا ولاحظناه فى أمر من أمور العبادة المحضة لله قَدَحَ ذلك فى توحيدنا، لذا يعتبر هذا الفهم من أقوى الأدلة للقدح في عقيدة القبوريين الذين يلجأون إلى غير الله فى الدعاء والتوسل والاستغاثة وصرف شيء من العبادة التى لا تجوز إلا له سبحانه لا للأولياء.
وهذا المعنى يُلاحظ فى آيات عدة فى القرآن, أي؛ صفات الربوبية التى لا يشبهه فيها أحد حيث يجب أن تتميز ولا يختلط فيها الفهم, فعلى سبيل المثال ما حكاه الله عن عيسى ابن مريم حيث قال: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ..}.
فيذكر تعالى نعمه على سيدنا عيسى عليه السلام والتى قد يشارك الله أحدُ فيها ويكون له يد بيضاء على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتاب أو التوراة مثلاً، ولكنه –تبارك وتعالى- عندما تكلم عن الخلق والإحياء والإماتة التى هى من صفاته لا لغيره, وتوحيد الربوبية يقتضى أن يُفرد بها, فى هذه الحالة لم يترك الكلام على عواهنه حتى لا يتوهم واهم ويظن ظان أن لعيسى ابن مريم تدخلاً ذاتيًا فى الإحياء والإماتة فقال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ...}, لم تكتمل الآية بعد ولكنه وضع القيد الذى لا محيد عنه فقال سبحانه وتعالى (بِإِذْنِي) {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي}, فصفة الخلق صفة لله وحده لا لغيره فكان لابد من هذا القيد حتى لا تختلط الأمور. وعلى هذا المنوال وهذه الوتيرة قال سبحانه وتعالى: {فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي}.
ولم يبعد هذ المعنى عن عيسى عليه السلام بل كان يعرفه معرفة تامة حيث قال لبنى إسرائيل: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ}, فكلمة (بِإِذْنِ اللّهِ) هذا هو القيد وهى صفة ربوبية لله ليست لغيره فكان لابد من هذا القيد وقال أيضًا: {وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ}, فهو عليه السلام ينفى عن قلوب تابعيه التفاتها إليه فى صفة من صفات الله تبارك وتعالى لا ينبغي لأحد أن يشاركه فيها البتة.
وهذا يوسف عليه السلام نسى وهو سجين في لحظة ضعف أن الله هو مسبب الأسباب فالتفت بقلبه إلى الأسباب وقال لرفيق السجن الذى استعد ليخرج منه: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} أي؛ ليخلصه من غياهب السجن, ولكنَّ الله تبارك وتعالى أراد أن يُخْلِصَهُ إليه وأن يجعل قلبه خالصًا له وهى صفة الأنبياء والمرسلين، فقال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}, ليصفو قلبه من التفاته إلى الأسباب ويعود إلى رب الأسباب، ينظر إليه أولاً ثم يأخذ بالأسباب ولا تكون هى فى ذاتها الملاذ والملجأ.
وهذا نبى الله موسى عليه السلام لما كان مع الخضر ورأى الشيء العُجاب وخوارق العادات، قال له العبد الصالح فى آخر الرحلة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}, أى ليس هذا من شأنى- أى علم الغيب- بل هو من علم الله جل وعلا فإليه يُرد الفضل، ولا يلتفت قلبك إلى عبد مثلك لا حول له ولا قوة.
ومعنى آخر على لسان إبراهيم عليه السلام حيث حاجه قومه فى الله فحاجهم وقال فى آلهتهم: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}, ثم أخذ يشرح سبب أن الله هو رب العالمين فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}, فالملاحظ لهذه الآيات يجد أن إبراهيم عليه السلام جاء باسم الإشارة (هو) لاحتمال أن هذه الصفات قد يشاركه تبارك وتعالى فيها أحدٌ من خلقه ولكن بقدْر مشترك مع قدْر فارق، فالهداية والشفاء والإطعام تثبت أيضًا للخلق، ولكنه عليه السلام لم يُرد هذا المعنى القاصر وإنما أراد مطلق الهداية ومطلق والشفاء ومطلق الرزق، أى مسبب الأسباب فجاء باسم الإشارة (هو) ليقول: هو لا غيره الفاعل الأساسى على وجه الحقيقة لهذه الأشياء.
ولكنه عندما تكلم عن الإحياء والإماتة لم يأت باسم الإشارة (هو) لأن هذه الصفات لا تكون إلا لله وحده فقال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} ولم يقل: (والذي يميتني فهو يحيين).
وعلى الشاكلة الأولى قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم43], جاء باسم الإشارة ليقول: إن المضحك والمبكي حقيقة هو الله ليس غيره.
وعلى الشاكلة الثانية قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى}[النجم45], لم يضع هنا اسم الإشارة لانتفاء المشابهة بالكلية بين الحق والخلق فى هذه الصفة وهى الإحياء والإماتة.
فإن قال قائل فإنه فى نفس السورة قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}, قلنا -والله أعلم- إن هذه الآية كأنها موجهة إلى النمروذ ومن على شاكلته حيث قال: (أنا أحى وأميت), وهذا الإحياء وهذه الإماتة ما هى إلا مغالطة، حيث قال العلماء: إنه عفا عن سجين وقتل آخر وفسرها بالإحياء والإماتة, فلهذا المخبول على تفاهته واختلاط سماديره قال إبراهيم عليه السلام هذه الآية وجاء باسم الإشارة (هو) ليقول لهذه الطائفة فقط: هو لا غيره فحسب الذى يملك الإحياء والإماتة على الحقيقة.