في ضحى اليوم الثاني ..
اجتمعت العائلة والأقارب والأعمام ..
انطلقنا للثلاجة..
كان يوما مشمسا ، والوجوه عابسة .. كنت وإخوتي كحفاري قبور..
لم نعرف كيف نبدأ كل له رأي وكل يتكلم ولكن ليس بينهم أبو محمد..!!
استكملنا إجراءات استخرج الجثة ومن ثم توجهنا للثلاجة..
كانت سيارة الإسعاف التي ستنقل الوالد جاهزة ومفتوحة الأبواب..
قادنا عامل بنغالي يحمل بيده نقالة صغيرة..
لم يظهر عليه أثر الخوف والتردد مثلنا!!!
كانت أمامه ثلاثة أبواب حديدية ضخمة..
فتح احدها فخرج منها تيار هوائي بارد للغاية..
ويا للمنظر الموحش..
أكثر من مئة جثة قد رصت بشكل فوضوي ..
دخل العامل للداخل فلحقته لوحدي .. ثم تتابع من جرؤ ورائي..
كانت بقع الدماء تملاء المكان ..
والجثث موضوعة في أدراج كأدراج الكتب والإضاءة خافته للغاية ..
بحث العامل في الأرقام وعيوننا جميعا تسير معه..
وأخيرا أشار لأبي.. وقال هذا هو ..!! دونكموه!!
اقتربنا من الوالد كان رحمه الله دقيق الجسم .. قليل اللحم ... رأيت يده فعرفتها..
أذكر أن أعمامي وإخوتي انكبوا على يده فقبلوه
لم يجرؤ أحد على رفع غطاء الوجه..
فقد كان الدم يغطيه بشكل مخيف..
وعلى جوانب النقالة سقط الدم..
كانت يده بارزة وتلمع فيها أزرار كم الثوب الحديدية..
وكان ثوبه أسودا كما تركته بالأمس..
لو لم أرى الدماء لظننته نائما رحمه الله فقد كانت كهيئته في ذلك كما عرفته..
أذكر مرة أنني في صغري وأنا لم أتجاوز الثمان سنوات ..
أنني دخلت على الوالد .. وكان نائما في صالة بيتنا القديم..
كان مهيبا ولا يجرؤ أحد على إزعاجه...
لكنني جرؤت حينها ووضعت راحة يدي على بطن قدمه وأريد مداعبته..
عندها استفاق الوالد ونظر من حوله فحين رآني لفحني بالمخدة وقال لي ياشقي!!
ها أنا الآن بعد أكثر من عشرين سنة أحمله جثة هامدة ...
أخرجناه وتوجهنا به للمغسلة.. وكانت على مسافة بعيدة..
دخلت مع عمي للمشاركة في التغسيل ..
كنت أتساءل .. هل أنا أحلم؟؟ ألم أكن بالأمس معه أتحدث !!
ما أرهب الموت وأعظم ترويعه..
كنت اقترب من وجهه ولا أقدر أنظر إليه .. ولكنني أخيرا رأيته..
خاطبته كثيرا وقبلته ودعوت له..
كانوا يقلبونه يمينا وشمالا كدمية !!
وبالأمس لا يجرؤ أحد أن يقاطع حديثه!!
كان سيدا مطاعا في أولاده وعماله وخدامه وزوجاته واليوم هو جثة هامدة!!
كان يستنشق الهواء ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق والآن يلف بخرقة !!
شقت السنون والهموم في وجهك ياأبي سنون طويلة..
والآن نم قرير العين مطمئنا ( بإذن الله)
ياأبي لكم تمنيت في تلك اللحظات أن أكون فدائك.. ولم تصب بخدش!!
ارحل فقد تركت في القلوب جروحا لن يمحوها الدهر لفراقك رحمك الله..
يا أبي لو علمت كيف أصبح حالنا من بعدك ..
تشتت حالنا ، وتبدلت القلوب ، وثقل حملنا من دونك
حملناه للحرم الشريف ووضع الوالد بين يدي الشيخ أسامة بن خياط..
فكبر الشيخ ،فكبر خلفه مئات الآلاف من المصلين .. وسيشفعون له إن شاء الله
حينما وصلنا للمقبرة ظننت أن هناك جنازات أخرى غير جنازتنا
فقد هالني الحشد الكبير من الناس..
أناس جاءوا من كل مدن المملكة من أصحابه وأحبابه وأقاربه بل وحتى طلابه..
لقد مكث الوالد في التعليم خمسة وثلاثين سنة.. حتى تقاعده..
صلوا عليه الجنازة مرة أخرى ثم وضعته وإخوتي في قبره الملحد..