السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
جولة في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم
للعظماء شأنهم المبكر منذ ولادتهم ، فكيف إذاكان العظيم هو محمد صلى الله عليه وسلم ، سيد الخلق ، وأفضل الرسل ، وخاتمالأنبياء ، الذي أحاطته الرعاية الربانية ، والعناية الإلهية منذ الصغر ، بحيثتميّزت طفولته عن بقيّة الناس ، وكان ذلك من تهيئة الله له للنبوّة .
ففي صبيحة يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيعالأول من عام الفيل ، الذي يُوافق العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة571م ، وُلد أكرم الخلق - صلى الله عليه وسلم – في مكة المكرمة ، وفي أشرف بيت منبيوتها ، فقد اصطفاه الله من بني هاشم ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفى قريشاًمن سائر العرب ، قال – صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله خلق الخلق ، فجعلني فيخير خلقه ، وجعلهم فرقتين ، فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خيرقبيلة ، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً )رواه أحمد .
ونسبه – صلى الله عليه وسلم – من أطهر الأنساب ،حيث لم يختلط بشيءٍ من سفاح الجاهليّة ، وتمتدّ أصول هذه الطهارة حتى تصل إلى آدم عليه السلام ، قال – صلى الله عليهوسلم – : ( خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ،لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء ) رواه الطبراني .
وقد نشأ - صلى الله عليه وسلم – يتيماً ، حيث توفّيوالده عند أخواله في المدينة قبل مولده ، فتولى أمره جدّه عبد المطلب ، الذي اعتنىبه أفضل عناية ، وشمله بعطفه واهتمامه ، واختار له أكفأ المرضعات ، فبعد أن أرضعتهثويبة مولاة أبي لهب ، دفع به إلى حليمة السعدية ، فقضى النبي – صلى الله عليهوسلم – الأيّام الأولى من حياته في بادية بني سعد ، ليلقى من مرضعته حليمة كلعناية ، مع حرصها على بقائه عندها حتى بعد إكمال السنتين ، لما رأت من البركة التيحلّت عليها بوجوده – صلى الله عليه وسلم - ، حيث امتلأ صدرها بالحليب بعد جفافه ،حتى هدأ صغارها وكفّوا عن البكاء جوعاً ، وكانت ماشيتها في السابق لا تكاد تجد مايكفيها من الطعام ، فإذا بالحال ينقلب عند مقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم –حتى زاد وزنها وامتلأت ضروعها باللبن ، ومن أجل ذلك تحايلت حليمة لإقناع والدةالنبي – صلى الله عليه وسلم – بضرورة رجوعه إلى البادية بحجّة الخوف عليه من وباءمكّة .
وهكذا أمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – سنواته الأولى في صحراءبني سعد ، فنشأ قوي البنية ، سليم الجسم ، فصيح اللسان ، معتمداً على نفسه ، حتىكانت السنة الرابعة من مولده ، حين كان - صلى الله عليه وسلم – يلعب مع الغلمانوقت الرعي ، فجاءه جبريل عليه السلام مع ملك آخر ، ، فأمسكا به وشقّا صدره ، ثماستخرجا قلبه ، وأخرجا منه قطعة سوداء فقال جبريل : " هذا حظ الشيطان منك" ، ثم غسلا قلبه وبطنه في وعاء من ذهب بماء زمزم ، ثم أعاده إلى مكانه ،والغلمان يشاهدون ذلك كلّه ، فانطلقوا مسرعين إلى مرضعته وهم يقولون : " إنمحمداً قد قُتل، وأقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يرتعد من الخوف ، فخشيتحليمة أن يكون قد أصابه مكروهٌ ، فأرجعته إلى أمّه ، وقالت لها : " أدّيتأمانتي وذمّتي " ، ثم أخبرتها بالقصّة ، فلم تجزع والدته لذلك ، وقالت لها :" إني رأيت خرج مني نورٌ أضاءت منه قصور الشام " .
وبهذه الحادثة الكريمة ، نال -صلى الله عليه وسلم-شرف التطهير من حظ الشيطان ووساوسه، ومن مزالق الشرك وضلالات الجاهليّة ، مع مافيها من دلالةٍ على الإعداد الإلهيّ للنبوّة والوحي منذ الصغر .
ومكث النبي – صلى الله عليه وسلم - في مكّة يتربّىفي أحضان والدته ، ولما بلغ عمره ست سنين توفيت أمه في قريةٍ يُقال لها "الأبواء " بين مكّة والمدينة ، فعوّضه جدّه عبدالمطلب حنان والديه ، وقرّبهإليه وقدّمه على سائر أبنائه ، وفي يومٍ من الأيام أرسل عبدالمطلب النبي – صلىالله عليه وسلم – للبحث عن ناقة ضائعة ، فتأخّر في العودة حتى حزن عليه جدّه حزناًشديداً ، فجعل يطوف بالبيت وهو يقول :
رب رد إلي راكبي محمدا رده رب إلي واصطنع عندي يدا
ولما عاد النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له :" يا بني ، لقد جزعت عليك جزعاً لم أجزعه على شيء قط ، والله لا أبعثك فيحاجةٍ أبداً ، ولا تفارقني بعد هذا أبداً " .
واستمرّت هذه الرعاية طيلة سنتين حتى توفّيعبدالمطلب وللنبي – صلى الله عليه وسلم – ثمان سنين ، فكفله عمّه أبو طالب وقامبحقه خير قيام ، وقدمه على أولاده ، واختصّه بمزيد احترام وتقدير ، ولم يزل ينصرهويبسط عليه حمايته ، ويُصادق ويُخاصم من أجله طوال أربعين سنة ، حتى توفّي قبيلالهجرة بثلاث سنين .
ومن هنا نرى كيف توالت الأحزان في طفولة النبي -صلى الله عليه وسلم – وتركت أثرها في قلبه ، وهو جزءٌ من التقدير والحكمة الإلهيّةفي إعداد هذا النبي الكريم ؛ حتى لا يتأثّر بأخلاق الجاهلية القائمة على معانيالكبر والاستعلاء ، فكانت تلك الأحزان سبباً في رقّة قلبه واكتسابه لمكارم الأخلاق، حتى صدق فيه وصف خديجة رضي الله عنه : " يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم ،ويُقري الضيف ، ويُعين على نوائب الحق " .