الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله –عباد الله- واعملوا صالحا [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:8}.
أيها المسلمون: من رأى حال المؤمنين في رمضان وهو لا يعرف معنى الإيمان فإنه سيعجب أشدَّ العجب من طاعتهم لله تعالى، ومبادرتهم إلى ترك ما يحتاجون إليه، ومفارقة ما يتلذذون به من الطعام والشراب والنكاح، لا يفعلون ذلك طلبا للدنيا، ولا لأجل الخلق؛ وإنما طاعة لله تعالى، ولا رقيب عليهم في ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، ولو أفطروا سِرَّاً لما علم بهم أحد سوى خالقهم عز وجل، ولو كَثُر المفطرون لاشتهر ذلك في المسلمين ولو حاولوا إخفاءه، ولكن المشهور والمشاهد أن عموم المسلمين يلتزمون بفريضة الصيام، وقلَّ فيهم من يُخِّلُ بها حتى من هم مقصرون في الفرائض الأخرى كالصلاة وغيرها.
إن الصائم يجوع فلا يأكل، ويظمى فلا يشرب، ويضحى فلا يفطر، ويُجْهَدُ أشدَّ الجَهْدِ إذا كان عمله شاقَّا فيصبر إلى غروب الشمس، وكان قادرا على أن يتخفى فيفطر، ويختلق لنفسه المعاذير.
وفي بلاد الكفر مؤمنون صائمون، يعملون في المزارع والمصانع والأسواق وغيرها، ويرون غيرهم يأكلون ويشربون ويتمتعون وهم ممسكون عن شهواتهم باختيارهم مع أن الداعي يدعوهم إلى ترك الصيام.
فما الذي جعل هؤلاء وأولئك يصومون، ويَحْرِمون أنفسهم ما أُودِعَ في بني آدم من شهوات الطعام والشراب والنكاح؟
ما الذي يجعلهم يلتزمون بوقت إمساكهم ووقت إفطارهم لا يُخِلُّون بشيء من ذلك، ولا يَضْعُفُون أمام الشهوات التي تحيط بهم من كل جانب؟
إنه –يا عباد الله- الإيمان الذي وقر في قلوبهم، وصدقته أعمالهم، فيصومون قربة لله تعالى، ويراقبونه عز وجل في صيامهم، ولا يخشون في ذلك أحدا إلا اللهَ تعالى، ولا يلتفتون إلى المفطرين وشهواتهم.. قد روضوا نفوسهم على الصبر والمصابرة والمرابطة في طاعة الله تعالى.
سمعوا نداء الرب جل جلاله لهم فأرعوا له أسماعهم، ووعته قلوبهم، وبادرت إلى امتثاله جوارحهم، وأجابوا: سمعنا وأطعنا.
ناداهم ربهم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183} فسارعوا إلى الاستجابة والامتثال.
إنهم ما صاموا إلا إيمانا بالله تعالى، وامتثالا لأمره، ورضا بدينه، وطلبا لمرضاته.
ما تركوا طعامهم وشرابهم، وجانبوا نسائهم إلا لأجل الله تعالى، وفي ذاته عز وجل فقال الرب جل جلاله في الصائم (يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ من أَجْلِي الصِّيَامُ لي وأنا أَجْزِي بِهِ) رواه البخاري.
يطلبون بصيامهم وقيامهم الأجر من الله تعالى، ولا أجرَ على صيامٍ ولا قيامٍ إلا إذا كان عن إيمان، والمؤمنون هم المخاطبون بالصيام والقيام، ولو صام غيرهم فلا أجر لهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من قام لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ)
(ومن قام رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ)رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فالمؤمن يصوم ويقوم إيمانا بالله تعالى، وإيمانا بأنه عبد لله سبحانه، وإيمانا بأن الله تعالى قد فرض الصيام وشرع القيام، وإيمانا بأن الله تعالى لا يشرع له، ولا يفرض عليه إلا ما هو خير له في الدنيا والآخرة، وإيمانا بأن الله تعالى مطلع عليه، يعلم سره وجهره، ويحصي عليه عمله، وإيمانا بأن الله تعالى يجازيه على صيامه وقيامه أعظم الجزاء، فيحتسب ذلك عند عز وجل، وإيمانا بأن الله تعالى سيعاقب من أفطروا في نهار رمضان لكفرهم أو لفسقهم، فيفرُّ بالصوم من عقاب الله تعالى.
إنه يؤمن بالبعث بعد الموت، وبحشر الناس وحسابهم، وبالثواب والعقاب، ويؤمن أن ذلك لله تعالى وليس لأحد سواه؛ فيطلب ثوابَ من يملك الثواب، ويفرُّ من عقاب من يملك العقاب، ويتقي عذابه بطاعته، والتزام فرائضه وإن ناله بعض المشقة من صيامه وقيامه، التي يعقبها راحة أبدية، وسعادة سرمدية.
ومن هنا نعلم –أيها الإخوة- شدة ارتباط الصيام بالإيمان، ولماذا خوطب به المؤمنون، ولماذا لا ينال ثواب الصيام والقيام إلا من صام وقام إيمانا واحتسابا.
جعلنا الله تعالى من أهل الإيمان والإحسان، وثبتنا عليه إلى الممات.
إبراهيم بن محمد الحقيل