عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 3  ]
قديم 2007-09-20, 1:19 PM
أبو_إبراهيم
عضو نشط
الصورة الرمزية أبو_إبراهيم
رقم العضوية : 35244
تاريخ التسجيل : 16 - 8 - 2007
عدد المشاركات : 374

غير متواجد
 
افتراضي التتمة
وبالجملة فيقف عند أول الداعى إلى فعله، فيفتش [ويستخرج منه منفدأ ومسلكاً يسلك به فينقلب] فى حقه عبادة وقربة، وشتان كم بين هذا وبين من إذا عرض له أمر من أوامر الرب لا بد له من فعله وفتش فيه على مراد لنفسه وغرض لطبعه، ففعلة لأجل ذلك وجعل الأمر طريقاً له ومنفذاً لمقصده، فسبحان من فاوت بين النفوس إلى هذا الحد والغاية، فهذا عباداته عادات، والأول عاداته عبادات.
فإذا جاءَ فرض الظهر بادر إليه مكملاً له ناصحاً فيه لمعبوده كنصح المحب الصادق المحبة لمحبوبه الذى قد طلب منه أن يعمل له شيئاً ما، فهو لا يبقى مجهوداً، بل يبذل مقدوره كله فى تحسينه وتزيينه وإصلاحه وإكماله ليقع موقعاً من محبوبه فينال به رضاه عنه وقربه منه.
أفلا يستحى العبد من ربه ومولاه ومعبوده أن لا يكون فى عمله هكذا، وهو يرى المحبين فى أشغال محبوبيهم من الخلق كيف يجتهدون [فى إيقاعها] على أحسن وجه وأكمله، بل هو يجد من نفسه ذلك مع من يحبه من الخلق، فلا أقل من أن يكون مع ربه بهذه المنزلة، ومن أنصف نفسه وعرف أعماله استحى من الله أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه ولم يدع من حسنه شيئاً إلا فعله.
وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه فى جميع أعماله، فهو يعلم أنه لا يوفى هذا المقام حقه، فهو أبداً يستغفر الله عقيب كل عمل وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثاً، وقال تعالى: { وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }* [الذاريات: 18].
قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون ربهم. وقال تعالى: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}* [البقرة: 199]، فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة، وشرع للمتوضيء أن يقول بعد وضوئه: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِين))، فهذه توبة بعد الوضوءِ، وتوبة بعد الحج، وتوبة بعد الصلاة وتوبة بعد قيام الليل. فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار كما تبين، فهو لا يزال مستغفراً تائباً، وكلما كثرت طاعاته كثرت توبته واستغفاره.
وجماع الأمر فى ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله عز وجل فى الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها فى محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقته لربه فى محبته ما أَحبه، وبذل الجهد فى فعله وموافقته فى كراهة ما كرهه وبذل الجهد فى تركه، وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة، لا للأَمَّارة ولا للَّوامة.
فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل، وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة فى معرفة الأَسماءِ والصفات والأفعال، له شهود خاص فيها مطابق لما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له، [فإنه] بحسب مخالفته له فى ذلك يقع الانحراف ويكون [مع] ذلك قائماً بأحكام العبودية الخاصة التى تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم، طريق سهل قريب موصل، طريق آمن أَكثر السالكين فى غفلة عنه، ولكن يستدعى رسوخاً فى العلم ومعرفة تامة به وإِقداماً على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله، وليس عند أكثر الناس سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمين عندهم، ثم لإحسان ظنهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم ولم يتجاوزوها [إلى غيرها] فصارت حجاباً لهم وأَى حجاب.
فمن فتح الله عليه بصيرة قلبه وإِيمانه حتى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحى والفطرة والعقل، فقد أُوتىخيراً كثيراً ولا يخاف عليه إِلا من ضعف همته، فإِذا انضاف إلى ذلك الفتح همة عالية فذاك السابق حقاً، واحد الناس بزمانه، لا يلحق شأْوه ولا يشق غباره فشتان ما بين من يتلقى أَحواله ووارداته عن الأَسماء والصفات وبين من يتلقاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرد ذوقه ووجده، إِذا استحسن شيئاً قال هذا هو الحق، فالسير إلى الله من طريق الأَسماءِ والصفات شأْنه عجب، وفتحه عجب صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعب ولا مكدود ولا مشتت عن وطنه ولا مشرد عن سكنه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِى تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب}* [النمل:88]. وليس العجب من سائر فى ليله ونهاره وهو فى الثرى لم يبرح من مكانه، وإنما العجب من ساكن لا يرى عليه أَثر السفر وقد قطع المراحل والمفاوز، فسائر قد ركبته نفسه فهو حاملها سائر بها ملبوك يعاقبها وتعاقبه ويجرها وتهرب منه ويخطو بها خطوة إلى أَمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها فى جهد وهى معه كذلك، وسائر قد ركب نفسه وملك عنانها فهو يسوقها كيف شاءَ وأَين شاءَ لا تلتوى عليه ولا تنجذب ولا تهرب منه، بل هى معه كالأسير الضعيف فى يد مالكه وآسره وكالدابة الريضة المنقادة فى يد سائسها وراكبها، فهى منقادة معه حيث قادها، فإِذا رام التقدم جمزت به وأَسرعت، فإذا أَرسلها سارت به وجرت فى الحلبة إلى الغاية ولا يردها شيء فتسير به وهو ساكن على ظهرها، ليس كالذى نزل عنها فهو يجرها بلجامها ويشحطها ولا تنشحط، فشتان ما بين المسافرين فتأَمل هذا المثل فإِنه مطابق لحال السائرين المذكورين، والله يختص برحمته من يشاءُ.


توقيع أبو_إبراهيم

قال يحيى بن معاذ:
على قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر حبك لله يحبك الخلق، وعلى قدر شغلك بالله يشتغل الخلق بأمرك.