الخطبة الثانية
الحمد لله العزيز الغفار، أثنى على التائبين وأشاد بالمستغفرين بالأسحار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، أحمده سبحانه على نعمه الغزار، وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المختار، بلّغ البلاغ المبين ودلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم من ذلك الذكر والاستغفار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار، وعلى من تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى وراقبوه، وتوبوا إليه واستغفروه، يغفر لكم ذنوبكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم.
أيها المسلمون:
إنّ الاستغفار منهجُ الأنبياء الأخيار، ومسلكُ الرسل الأبرار، فقد عملوا به، وأمروا به أقوامهم.
الاستغفار من موجبات رحمة الله، فلقد أخبر الله عن صالح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
فمن استغفر الله بصدق غفر الله له قال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً).
وقال صلى الله عليه وسلّم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم". [رواه مسلم].
والاستغفار أمانٌ للأمة من العذاب: (وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
إن الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في القلب لا التلفظ باللسان فحسب.
فأما من قال بلسانه: استغفر الله، وقلبه مصرٌ على معصيته، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار (هذا ما قرره القرطبي رحمه الله في تفسيره).
أيها المسلم:
الزم الاستغفار الصادق في جميع أحوالك، فلربما صادفتَ ساعة إجابة فغُفِرَتْ ذنوبك، وحصلت على مطلوبك.
قال لقمان لابنه: "يا بني عَوِّد لسانك الاستغفار فإن لله ساعاتٍ لا يردُّ فيها سائلاً".
وقال الحسن: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي أسواقكم ومجالسكم، وأينما كنتم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة".
وسيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
وقد قال صلى الله عليه وسلّم عن فضل هذه الكلمات: " ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".
وقول القائل (استغفر الله) معناه أطلب مغفرته، فهو مثل قوله: (اللهم اغفر لي).
فالاستغفار التامُّ الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار، كما مدح الله أهله ووعدهم بالمغفرة.
قال بعض السلف: "من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيحُ توبته فهو كاذب".
وكان بعضهم يقول: "استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير".
وليس معنى هذا أن يدع المرءُ الاستغفار بحجة أنه مقيمٌ على الذنب، بل عليه أن يجاهد نفسه على لزوم الاستغفار، وعلى التخلص من الذنوب والأوزار، فلقد كان جماعة من السلف رحمهم الله لا يفتُرون من الاستغفار.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كُلَّ يومٍ ألف مرة، وذلك على قدر ديتي".
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً".
بل قد كان الصحابة يعدّون لنبينا صلى الله عليه وسلّم في المجلس الواحد مائة مرة، فعن ابن عمر قال: "ربما عُدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم".
وفي رواية: " كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فسمعته استغفر مائة مرة، يقول: اللهم اغفر لي، وارحمني، وتب علي، إنك أنت التواب الغفور".
وقال بعضهم: "ما جاور عبدٌ في قبره من جار أحبُّ إليه من كثرة الاستغفار".
وقال آخر: "إما مُعَوَّلُ المذنبين البكاء والاستغفار، فمن أهمّته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار".
جعلني الله وإياكم من الصادقين في استغفارهم، المنيبين إلى ربهم.
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الشيخ /صالح بن عبد الرحمن الخضيري