عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 3  ]
قديم 2007-09-10, 8:21 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
لم تنتهي الزيارة لكن خفت أن أطيل على المشرف الذي أتعبه العمل , فاستأذنته و ودعته , بعدما قبلت رأسه و شكرته على جميل صنعه مع أخوتنا هناك , ركبت سيارتي و ركبت زوجتي و أخواتي , وخرجت من دار الأحزان , إلى عالم النسيان و النكران , خرجت بسيارتي إلى عالمي الذي خنق أنفاسي , خرجت إلى المجتمع الذي يحوي بين جنباته ابن عاق , و عشيرة متنكرة , و مجتمع لم يرحم , كان الصمت يخيم على الجميع , كأننا كنا في حلم أو كأننا بدأنا نعيش وقائع مؤلم , بل أحس كأننا كنا ممن شارك في هذه المأساة , بدت لي الدنيا غريبة , كل شيء في ناظري تغير , فلا السماء سمائي و لا الأرض أرضي و التي أمشي عليها في سالف أيامي , و لا الهواء هوائي الذي أستنشقه يومياً رطباً نقياً ينعش حياتي , إن نسماته تكاد أن تخنقني , و حتى الوجوه التي حولي وكنت أعرفها و آلفها , قد تغيرت في عيني . لقد تأرجحت في قلبي كفتي الميزان , فاختلط الحق بالباطل , و صار كل شيء ضبابي بهيم . اختَرقتُ جموع السيارات و لا ادري كيف مررت من بينهم , كل الذي يتظاهر أمامي هو مناظر آبائي . لقد خرجنا من تلك الدار , بل لقد خرجنا من ذلك الحلم الموحش , خرجنا و الصمت يخيم علينا , فقلت بتثاقل لأختي كيف أخواتنا هناك ؟ فأجابت أختي بعد صمت , و ها أنا ذا أصمت مثل صمتها , فأخاف عليكم إن ذكرت وضعهم أن أسقيكم المر , و أن أذيقكم العلقم , أو أن أجرعكم الحسرة و الندم على من في الدار , بل سأقتصر على الإشارة و التلميح من بعيد كما فعلت مع إخوتنا الرجال , يكفي أن أحداهن قد لبثت في هذه الدار 38 سنة , و أن اثنتين منهن قد ودعتا الحياة قبل رمضان , ولم يكن بجانبهن من يؤنسهن في لحظات الوداع , أو يرمقهن بنظرات الحنان , أو يتلمسهن بيد العطف , أو يذرف عليهن دمعة , أو يئن لغصص الموت عليهن أنه , إنها حالة بئيسة تلك الحالة , أن تخرج من هذه الدنيا و أنت تفقد الأمل برؤية أحبابك الذين تتمنى أن يكونوا بجانبك ولو بساعة الفراق , أن تسقط آخر ورقة من أوراق التلاق , أن نموت و يموت الأمل , إنهم يموتون ويصيرون إلى غربة , و قد كانت حياتهم كلها غربة , ربي رحماك بهم , ربي رحماك بهم , ربي رحماك بهم . لقد كانوا يتمنون أن يشاهدوا الأحباب قبل أن تشخص الأبصار , لقد كانوا يتمنون أن تفرح قلوبهم قبل أن تسكن نبضاتهم , لقد كانوا يتمنون أن تلامسهم أيديهم قبل أن يلامسهم الموت , إنها لحظات عصيبة تمر عليهم , من يدمع على فراقهم , من يترحم عليهم , بل من سيُنزل الجفون على العيون بعد أن تشخص من شدة الموت الأبصار , فهل هناك أصعب من أن يتمنى إنسان أن يجد أحداً بجانبه وهو في لحظة الفراق فلا يجده ؟ هل هناك أكثر أقسوة من أن لا يجد إنسان من يمشي في جنازته ؟ هل هناك أشد من أن تتمنى أن يذكرك أعز الناس إليك لكي يحثوا التراب عليك ؟ و أن يحضروا مواراتك عن العيون , و أن يضعوك ببيت الدود , حتى تغيب عن كل أمل و تصير إلى قبر و لحد , و تكون من سكان قبور الآخرة بعد أن كنت من سكان قبور الدنيا . و والله لا أعلم هل كانت سكرات الموت عليهم أكثر كربة أم سكرات الحياة أكرب , هل غصص الموت أصعب أو غصص النكران أصعب , هل التفاف الساق بالساق أثناء الممات اشد أو صدود الأهلون و الأقربون عنهم أشد و أدهى و أعظم و أمر . لقد جاءتهم سكرات الموت التي كانوا يتمنونها , لقد حل عليهم اليوم يومهم الذي كتب لهم , لقد حضر إليهم الموت فوجدهم قد خنقتهم الحياة قبله , لقد جاءهم ليقبض أرواحهم فوجد أجساماً بلا روح , لو نطق الموت لترحم عليهم من حالهم . لقد خلت الدار من رقم ساكن حسبوا أن ليس له في المجتمع اعتبار , لقد قيد في عداد الموتى , و انتهت قصة من قصص الجحود و النكران , فضاق الحزن بموته فهو الذي كان يؤنسه , فمن للحزن بعد موت الحزين من صديق يسليه , و من للهم بعد موت المهموم من خليل يتسلى فيه , كم حبست جدر تلك الدار من الآهات التي و صلت إلى كل مكان و لم تصل إلى الذين يجب أن تصلهم , لقد أحس بها كل جماد و لم يحس بها كل من أغلق الله قلبه و صارت إلى خسران , هي الأيام تنقصهم و لا أحد يدري عنهم .

تقول المشرفة أن هناك الآن على السرير الأبيض ترقد امرأتان , فلا يعلمن هل إلى الدار ترجعان أو إلى المقبرة تسيران , و لعلي أكتفي إلى هنا فو الله إن في دار النساء لقصص أخاف أن تشيب لها الولدان و أن يسكن قلوبكم الهم و الحزن من ذكرها , لقد ودعتهم وعيون الآباء تقول :

لقد سقيتني كأس المر , من كأس قوتك الزائفة ابني لقد بذلت عمري كله لك و أنا سعيد , فأكمل سني عمرك سعيداً من حساب أحزاني الوافر .
لقد كنت ابحث عن سعادتك , فوجدتها أنت بتعاستي .
في كل عمري كنت آخذ من سعادتي لأسعدك , فلما انتظرت رد الدين , وجدت أنني قد أقرضت إنسان غير وفي .
ابني لقد لان ظهري و أنعكف , و نزلت أجفاني و ارتخت , و غاب بصري و من الدمع قد جفت , فهل يكفيك هذا يا ابني , و تعود وتفرح قلبي .
ابني لعلك لا تعلم أنني من أن سكنت هذه الدار , و جاورت الأحزان , لم يكن لي مصدر للسعادة إلا هي تلك اللحظات , التي أتذكرها و أنا ألاعبك , أو أضاحكك , أو تبكي و أحاول أن أسترضيك , كم أنا مشتاق إليك .
زارني زائر المرض , فذكرت بسمتك فهان مرضي , و زارني زائر الهم فذكرت دمعتك فهان همي , و زارني زائر الموت فلم أجدك بجانبي ففاضت روحي قبل يومي .
أسمع من خلف الأسوار أصوات أطفال , فأتذكرك صغيراً , و أسماع صوت أب ينادي لأبنه , و أبتسم مسرورا و أرى بيني و بينك سورا , فأنقلب حزيناً مكسورا .
ابني إن بلغتك حالة وفاتي , و ضمت الأرض رفاتي , و قادتك دنياك يوماً لتذكري , فتذكر إنني رعيتك و كل أملي أن أراك مسرورا , فسر بحياتك مسرورا , فرغم الذي كان منك فأنا أسامحك في حياتي وبعد مماتي .
ابني لقد صرت اليوم إلى أيدي غرباء يقلبونني , و قلوب أناس لا يعرفونني , و قد كنت أقلبك بيدي , و أنزف عليك من قلبي , بُنيّ فلا تكلني لهم فأنا لا يزيدني رعايتهم لي على جهدهم سوا ألماً , فأنا أفقدك و افقد روحي معك في كل يوم .
بُنيّ لقد ذقت من مآسي الحياة ألواناً , و من كربها أصناف , و أشدها قسوة هي يوم أن وضعتني هنا و غبت عن ناظري , فارحم قلباً ينبض بلا دم و صدراً يثور بلا نفس , و إنساناً يتحرك بلا أمل .
ابني لقد مللت من جدران الصمت , و فراش الموت , و أصوات السكون , فكلها تقتلني و تجعل جرحي ينزف كل يوم , فلا هي تقضي علي بقتلة واحدة و لا هي ترحمني و تلتئم , فإلتأمها جميعاً بصوتك , و رؤية وجهك . فهل ألمحك و لو من بعيد ؟ يارب إن كان هذا ابتلاء فقد صبرت سنين , و إن كان جزاء بمعصية فلك أتوب و أجعلني عنها من الراجعين , و إن كانت بسبب قسوة في قلب أهلي , فاللهم لا تحرمني منهم و ردهم لي سالمين و أجعل قلبوهم لي تلين .
لقد كانت هذه نظراتهم و هذه نداءاتهم فكلها عطف رغم الجحود من الكثير ممن حولهم , و لكن هل تلين قلوب العصاة و يعودون لصراط رب العالمين .

قال تعالى :
“وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاها فلا تقل لا أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ” ، الاسراء:23،24 في الختام :
لقد كنت متردداً بكتابة هذه الزيارة , و لكن نفذ صبري , عندما سمعت أن امرأة تسأل في أحد القنوات , و تقول : أرشدوني ماذا أعمل بأم زوجي ؟
فأقول الجواب :
اعملي ما شئت , هو عمل يدك , و نتاجه ستحصدينه في سني عمرك القريبة , إن خيراً فخير , و إن شراً فشر , هدانا الله و إياك و أرشدنا للحق و جعلنا به عاملين .
و أقول لكل زوج كن معيناً لزوجتك على بر آبائها و أهلها .
و لكل زوجة كوني معينة لزوجك على البر بآبائه و أهله .
فإني أشد ما أخاف منه أن يأتينا العقوق من أنفسنا .
و إلى كل ابن لفظت شفتاه كلمة العصيان و قال لوالديه : أف , أقول عد قبل أن يفوت الأوان , وتصير إلى خسران .
انتهت الزيارة و بقي الألم .