ذهبنا إلى أول الغرف , وتسمع من خلف الباب صوت جميل يحمل بين جنباته أنين و صوت حزين , طرقنا الباب , و لم يجب نازلها , أعدنا الطرق , أجاب النزيل أن أدخل , وجدت النزيل قد جلس على سريره متربعاً , بين يديه مصحفه الذي يتلو منه آيات من القرآن الكريم , يقلب بصره بين آياته و يمتعهما في سوره , هو أنيسه , و هو جليسه , و هو سلوته في غربته , هو العلاج الأكيد لمصائب الزمان , و هو الدواء لبلاء الجحود و النكران , يقرأ آيات الصبر فيزداد صبراً , يتمعن بالآيات التي تحث على البر فيزداد ألماً , أقبلت عليه و سلمت عليه معايداً , فسلم و أخذ يحكي يومه فيقول : أنا يومي بين الفاتحة و الناس , أقرأ , أتأمل , أتلذذ , أتفكر , أتمعن , من طلوع الشمس حتى تسقط خلف خط الغروب , نعم , نعم , أنيس و خير جليس و أكرم به من معين على نوائب الدهر , لم نرد أن نقطعه من هذه الخلوة التي تصله بربه , فاستأذناه بالخروج , فعاد كالنحل له صوت و أزيز جميل .
فخرجنا إلى غرفة بجواره , فإذا فيها مسن قد رقد على سريره و بيده ريموت الرائي , يبحث بين قنواته ما يجعله يخرج من أسوار هذه المدينة الحزينة , يبحث عن أخبار عالمه خلف الأسوار , كان له فيه ذكريات جميلة , كان له فيه طموح و أمل , كان له فيه موضع قدام بين أقدام المئات من ساكنيها , كان له أنفاس بين ألوف الأنفاس المنبثة في فضاءه , و اليوم , هو وغرفته و التلفاز فقط , لا , لا , بل يسكن معه رفقاء تلك الدار , الهم و الحزن و الكدر , في غرفته التي صبغتها الأيام بالسواد , وعلقت فيها الأستار فصارت كمشانق , و زينت بأثاث هي كلحود في مقابر , قد ملت عيناه من جدرانها و أثاثها و أستارها و تلفازها , بل ملت يده من هذا الجهاز الذي بين يديه فيقلب فيه القنوات لعله يجد ما يسليه , فيجد فيه حروباً و كوارث و مصائب كأنها إليها تناجيه , كأنما أرادوا أن يزيدوهم إلى همومهم هماً , دخلت عليه و هو يبتسم و خرجت منه و هو مبتسم , قد رضي بقدر الله فزانت نفسه باليقين و تعلقت برب العالمين , فرضي بما أصابه و آمن بالله و قضائه , خرجت من الغرفة و بدأ هو بالبحث عن قناة مفقودة لعلها تسكن بعض ألمه أو تنشر بسمة على محياه .
اتجهنا إلى غرفة بجانبها فإذا بصاحبها كهل قد استغرق بنومه فقد رمته السنين على سرير الأحزان , فلم أشأ أن أزعج منامه , لقد رحمت حاله , فو الله لكأني أنظر إلى طفل صغير قد فقد أمه , فأعياه البكاء فنام على فراشه , فلم يجد من يرفع رأسه أو من يغطيه من البرد بلحافه , لقد جمع جسمه و ثنى ركبتيه إلى صدره , فصار كعصفور بلله الماء فأخذ يرتعد من البرد , فنظرته بحسرة و اسأل الله أن ينظر إليه برحمة , إلهي أرحم ضعفنا و ضعفهم , و أجبر كسرنا وكسرهم , و أمدهم بصبر و يقين و فرج منك يارب العالمين .
خرجت من تلك الغرف و مررنا على البقية و كل غرفة منها تشهد مأساة , و كل مأساة تغرس خنجراً في صدري ينزف منه دماً , لقد سكن الهم معهم , وجاورهم الحزن في غرفهم حتى ألفوه , فأصبحوا يتنكدون يومهم إن غاب عنهم , لقد سكن صدورهم فأصبح هو صباحهم و مساؤهم , هو نفسهم الذي في صدورهم , هو نبضهم الذي في قلوبهم , هو زائرهم الذي لم يخن العهد معهم , لازمهم في حياتهم الأولى و لم يتخلى عنهم في بلاد الأحزان , لقد خانتهم السعادة فلم تطرق لهم باباً , و خانهم الأمل فلم يبن له شعاعاً , و خانهم التفاؤل و لم يصل لهم مراداً , خانتهم كل الأشياء الجميلة , و تبقى الحزن هو الوحيد الذي لم يخنهم , لقد كان الحزن بسمتهم , و الحزن بكاءهم , و لازمهم و عاش معهم , حتى صار ملء عيونهم و سمعهم و قلوبهم.
خرجت مع المشرف و أحس بشيء يهد كياني , أحس بوحشة من عالمي الذي من حولي , أحسب بخوف من مجتمع أعيش بينهم , أحس أني صاحب خديعة و أحس أني قد شاركت بالجريمة , لقد اجتمعت هموم هؤلاء كلهم في قلبي , فأصبحت ضائق النفس , شديد الكرب , ضاقت علي دنياي بما رحبت , فكأني أتنفس من ثقب إبرة , مُسحت كل الأشياء الجميلة التي تختزلها ذاكرتي , حتى دموعي تجمدت في محاجرها , و بدلاً أن تسيل على خدي , نزلت إلى قلبي فكانت أساً وحرقة و ألماً وحزناً .
أدخلني المشرف إلى مكتبه فشكرته على مجهوده و أثنيت على إخلاصه , و أسهب بالحديث عن الدار و أهلها , عن الدار و ألوان الحزن الذي يرسم في وجوه ساكنيها فصارت وشماً واضحاً عليهم , تمر عليهم الأيام لا يميزون أيامها , إلا بمغيب شمسها أو خروجها من مشرقها , كل الأيام سواء , فلا يفرقون بين سبتها إلى جمعتها إلا عندما ينادي المنادي لصلاة الجمعة , كل الأوقات واحدة , فأول النهار و آخره سواء , فعقارب الساعة تدور بلا فائدة , و الوقت هناك بلا ثمن , الوقت هناك كالسيف كل جزء منه يُقطِعُك أرباً أرباً, يقطع قلوب ساكني تلك الديار أجزاء , كل جزء يقطعه يزيد من همه و يبعده عن أمله , لقد ملوا من حساب السنين و الأعمار , و ملوا من طول الانتظار , فأول الشهر و آخره و أول السنة و آخره كلها نسخ طبق الأصل , كلٌ قد سكن غرفته و يقلب ماضيه , و ينظر إلى مستقبله الذي يسير ببطء , فمتى تنصرم أيام العمر و ينتهي هذا الهم , و متى تنزاح أثقال السنين و يصل الأجل , لولا إيماناً يقويهم لتمنوا الموت أو لسعوا إليه , حالات متفرقة و أوضاع غريبة , منهم الأب الذي سالت دمعته من عقوق أبنائه , لازمهم و لاعبهم في صباهم , سالت دموعه عليهم في شبابهم , تفطر قلبه وجداً عليهم , كانوا كل أمله و مبلغ أحلامه , أمنيته في حياته بسيط , هي ابتسامة من ثغر طفله , كل آلامه هي صيحة من وجه صغيره , سهر الليالي و تذوق العلقم و تحمل المآسي من أجله , و من أجل أن يصير له ابناً يشد من عضده و يسنده عندما يبلغ كبره , فكبر الابن , نعم كبر , و ظن الأب أنه حان وقت الراحة , قد حان وقت الحصاد و الأمل , فكان الابتلاء من الله لهذا الأب على أن صار إلى هذا الدار , لماذا وبأي ذنب , فلا جواب إلا أنه أصبح شيخاً مسناً لا يستحمل و لا يطاق , و هي قصة تتكرر في كل دور الرعاية , تتكرر بصور مختلفة , تتكرر من الأبناء و الأقرباء و المجتمع بالكامل , ناهيك عن قصص أخرى و جدتها هناك , فمنهم من عاش في هذه الدار بعد أن حل الشيطان بين أبيه و أمه , ففرقتهم الخلافات الزوجية , فصار كلاً منهما إلى سبيل , و ضاع ذلك الابن في زحام الحياة , و وسط أنانية زوجين كلاً يبحث عن رغباته , و كلاً يقتل فلذة كبده من أجل نزوة بسيطة , فشب الابن و شاب و هو من دور رعاية الأيتام إلى دور رعاية المسنين , فا الله نسألك رحمتك فينا و في إخواننا و نسألك لطفك و عطفك , و أن لا تنزعهما منا.
هناك من كان ضحية الإهمال , فضاع في طرقات الحياة , فأصبح مدمناً في أول حياته , مرمياً في السجون في شبابه , و فكانت نهاية المطاف دور الرعاية.
هناك من أغلق عليه غرفته من سنين فلا يسمح أن يدخل عليه زائر , أو يمر عليه قريب , أو يرى أي شخص مهما كان ماعدا المشرف , يقول المشرف : لقد حاولت أن أقنعه بفائدة تلك الزيارات , و أنها تخفف المصاب و تزيل بعض الهم , فقال دعوني لهمي و لحزني , فكل من حولي لم يذكرونني و إن ذكروني فهم يخجلون مني , دعوني في غرفتي حتى يقضي الله أجلي.
سألت المشرف : عن أطول المقيمين في دار الرعاية , فقال رقماً أصابني بمقتل , قال هناك أحد الأشخاص قد عاش في هذه الدار منذ 35 سنة , يا الله كل هذا العمر هنا بين جدرانها الصامتة , و بين ممراتها الكئيبة , و في غرفها الحزينة , لقد مر علي عمري بالكامل , مر علي عمري أيام طفولتي , و أيام شبابي , و بعد زواجي , فكل هذه الأيام هو يسكن هنا , و أنا في حياتي عنهم غافل , و في طرقاتي سائر , و في أيامي لاهي , بعدما قال لي ذلك الرقم سكت و في الحلق غصة , و في العين دمعة , و في القلب ألف أساً و حرقة , سكت و لم يسكت المشرف فقال : هل تصدق أن بعض ساكني الدار يخرجون من عندنا ليعشوا مع المجتمع مرة أخرى , ثم تستحيل عليهم الحياة هناك فيعودوا من جديد إلينا , لقد تنكر لهم كل شيء في خارج أسوار مدينتهم مدينة الأحزان , لقد تغيرت صورة كل شيء هناك , في فضاء من يدعون أنهم يعيشون عيشة السعداء , لقد صارت مدينة الأحزان أحب إليهم من حياتهم الأولى.