الموضوع: النار الخفية
عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 4  ]
قديم 2007-09-07, 7:05 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، العبد المجتبى، والنبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه واقتفى. أما بعد:

أخي الشاب:

لا بدّ أن تتذكر أنك تنتمي إلى كوكبة من الرجال الفضلاء، و إلى مجموعة من الأبطال النبلاء، تعرضت لهم الفتن والشهوات؛ فجعلوها خلف ظهورهم.

نعم كانت الفتن تتعرض لهم، ويراد لهم الوقوعُ فيها، ومع ذلك ظلّت عفتهم وكرامتهم الإيمانية تمنعهم من اقتراف هاتيك القاذورات، وتلك المحرمات!.

وحتى لا تذهب بك الظنون، فإني لست أعني أنهم كالملائكة الكرام! كلا؛ فهم بشر مثلنا، لهم شهوة كشهوتنا، ولكن البون الشاسع بيننا وبينهم!، فهم رجالٌ تطلعت نفوسهم إلى ما عند الله تعالى مما أعده لعباده المتقين من جنات وعيون، وفواكه مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء بما كانوا يعملون.

ولذا دعني أعطر سمعك وقلبك بقصص أسلافك الأوائل، الذين هم قدوتك وأسوتك.

يُروى أن شاباً كان في مقتبل عمره، أحبته امرأة فأرسلت إليه تشكو حبّه وتسأله الزيارة، وكان لها زوج فألحّت عليه، فأفشى ذلك إلى صديقٍ له، فقال له: لو بعثت إليها بعض أهلك فوعظتها وزجرتها رجوت أن تكفّ عنك، فأمسك، وأرسلت إليه: إما أن تزورني وإما أن أزورك، فأبى.

فلما يئست منه ذهبت إلى امرأة كانت تعمل السحر فجعلت لها العطاء الجزيل في تهييجه، فعملت لها في ذلك، فبينا هو ذات ليلةٍ مع أبيه إذ خطر ذكرُها بقلبه وهاج منه أمرٌ لم يكن يعرفه واختلط عقله وفسد، فقام مسرعاً فصلى واستعاذ والأمر يشتد، فقال: يا أبه أدركني بقيد، فقال: يا بني ما قصتك؟! فحدثه بالقصة، فقام وقيّده وأدخله بيتاً، فجعل يضطرب ويخور كما يخور الثور، ثم هدأ فإذا هو ميّت والدم يسيل من منخره.([5]).

سبحان الله! كل ذلك من أجل ألا يقع في الحرام، ولا يقترف الحرام، ولا يواقع جسداً حراماً!.

إنه يضحي بنفسه وروحه من أجل أن يكون عفيفاً طاهراً زكيّاً!.

فيا لله، على لتلك النفوس الأبية! ويا لله على تلك القلوب الحية!.

يقول حصين بن عبد الرحمن: "بلغني أن فتى من أهل المدينة كان يشهد الصلوات كلها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر يتفقّده إذا غاب، فعشقته امرأة من أهل المدينة، فذكرت ذلك لبعض نسائها، فقالت: أنا أحتال لك في إدخاله عليك، فقعدت له في الطريق، فلما مرّ بها قالت له: إني امرأة كبيرة السنّ ولي شاة لا أستطيع أن أحلبها، فلو دخلت فحلبتها لي، وكانوا أرغب شيء في الخير، فدخل فلم ير شاة، فقالت: اجلس حتى آتيك بها، فإذا المرأة قد طلعت عليه!.

فلما رأى ذلك عمد إلى محرابٍ في البيت فقعد فيه، فأرادته عن نفسه فأبى، وقال: اتقي الله أيتها المرأة، فجعلت لا تكف عنه ولا تلتفت إلى قوله، فلما أبى عليها صاحت عليه فجاءوا؛ فقالت: إنّ هذا دخل عليّ يريدني عن نفسي، فوثبوا عليه وجعلوا يضربونه وأوثقوه.

فلمّا صلى عمر الغداة فَقَدَه، فبينا هو كذلك إذ جاؤوا به في وثاق، فلما رآه عمر قال: اللهم لا تخلف ظني به، قال: مالكم؟! قالوا: استغاثت امرأة بالليل فجئنا فوجدنا هذا الغلام عندها، فضربناه وأوثقناه، فقال عمر رضي الله عنه: أصدقني، فأخبره بالقصة على وجهها، فقال له عمر رضي الله عنه: أتعرف العجوز؟! فقال: نعم إن رأيتها عرفتها، فأرسل عمر إلى نساء جيرانها وعجائزهن، فجاء بهن فعرضهن، فلم يعرفها فيهن، حتى مرت به العجوز فقال: هذه يا أمير المؤمنين، فرفع عمر عليها الدرة وقال: أصدقيني.

فقصّت عليه القصة كما قصها الفتى. فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف" ([6]).

نعم، شبيه يوسف عليه السلام؛ الذي راودته تلك المرأة!. وما أشدها وأقساها من تجربة؟!.

فيوسف عليه السلام في ريعان الشباب، يمتلئ جسمه قوة وحيوية، وجمالاً ورونقاً، وهو في حالة غربة وعزبة، وأسباب الفاحشة ودواعيها تتهيأ له، فالمرأة هي الداعية.

وامرأة منْ هذه؟!.

إنها امرأة العزيز عزيز مصر!. فحسبك بهذا فتنة وإغراء!.

وقد تزيّنت بكل ما تملك! والدعوة في بيت آمن، وقد غلقت الأبواب، ولكن بقي باب واحد لم يغلق ولن يُغلق؛ إنه باب السماء، فيتذكّر يوسف عليه السلام من خلاله عظمة الجبار جل جلاله ويتصور رقابته، ويرى برهان ربّه فيلوذ بحماه، وينتصر على الإغراء والشهوة، ويمتنع عن مقارفة الفاحشة، ويستحق أن يكون من عباد الله المخلصين: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). [يوسف: 24].

هؤلاء الشباب الذين عطروا التاريخ بعفافهم وطهرهم وزكائهم ونقائهم.

هؤلاء الذين جمّلوا التاريخ بقوة إرادتهم، وصلابة إيمانهم.

هؤلاء الذين تحرروا من رقّ الشهوات فأصبحوا سادة الدنيا!.

أين نحن من أولي الهمم العالية، والعزائم السامية؟!.

أين أنتم يا شباب من صقر قريش؛ عبد الرحمن الداخل، الذي أُهديت إليه جارية بارعة الجمال، فائقة الحسن والكمال عند أول قدومه لبلاد الأندلس: "فلمّا رآها قال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغِلت عنها بما أهِمُّ به ظلمتها، وإن اشتغلتُ بها عمّا أهِمُّ به ظلمتُ همتي، فلا حاجة لي بها الآن، وردها على صاحبها".

فانظر إلى هذا الرجل لمّا تحرر من شهوته: كيف نال ما نال؟!.

هذا الرجل الذي ولي الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتشرقُ بالدماء، فما لبث أن قرّت له، وسكنت لهيبته، ثم خرج في طليعة من جنده، فافتتح سبعين حصناً في غزوة واحدة، ثم أمعن في قلب فرنسا، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطرافا من إيطاليا، حتى ريّض كل أولئك له([7]).

هؤلاء أجدادك وأسلافك، فَسِر على ما ساروا عليه، والحق بركائبهم تكن من الفائزين بإذن الله تعالى.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

اللهم أكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) يقول أحد القساوسة النصارى: "جاء النشء الإسلامي مطابقاً لما أراده الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، يسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى أصبحت الشهوات هدفه في الحياة".

فكيف يجرّكم أعداء الله إلى مستنقع المعاصي وأنتم شباب أعزكم الله بالإسلام، وكيف ترضون بهذا الضعف والهوان؟! وإلى متى تستمرون منغمسين فيه؟!.

([2]) ذم الهوى لابن الجوزي ص 186.

([3]) المنتقى الشافي من الجواب الكافي ص 42-43. يسر الله طبعه.

([4]) الجواب الكافي ص 405.

([5]) روضة المحبين ص 461-162. بتصرف يسير.

([6]) انظر: روضة المحبين ص 460. وقد ذكر قصصا كثيرة حول هذا المعنى إن أردتها فانظرها فيه.

([7]) انظر العشق: حقيقته، ص 80 لمحمد الحمد.

د. محمد بن عبدالله الهبدان